أنا مقبرة جماعية قديمة/ حمد عبود
أملكُ إطلالة على ماضٍ جميل وبوابة حديدية بقفل صيني، ذهبي اللون ماركة “الحلقات الثلاث”، لدي أولاد كانوا يحبون لعبة “ليل نهار” وعجائز من مختلف الأعمار، يشخرُ بعضهم في الليل فأحركُ مِن فوق رؤوسهم شواهدهم وأجدد مياه كؤوس أطقمِ الأسنان لبعضهم الآخر.
على وجهي عشبٌ يُذكِّر بزغبِ طفولةِ حبهم وزهرٌ أخضر على جنبي الأيسر. أتذكر أول رجل مرّ بي، خائفا مرتعش الخاطر، كانَ ينظر حوله وكأنه مُقبلٌ على مصافحة مومس، تهيأ لي وقتها – حين كنتُ لا أعرف الرجال جيدا- بأنه سيكسر القفل وينهبُ ترابي وذهبي وجدائلي الخشبية الطرية.
أتذكرُ أولَ رجلٍ مرّ بي كلما جاءت مجموعة جديدة من الزوار، الرجل الأول لا يُنسى. تراودني الكوابيس، حلمتُ مرة بأنّ الشواهد طارتْ من مكانها فهرعتُ كالمجنونة أقلِبُ القبور لأتفقدَ من يرقدُ أين، نفضتُ الخزائن كلها وأعدتُ ترتيبهم من الصغير حتى الكبير، الرجال بياسمينة والنساء بقرنفلة، أما الأطفال فكان حضورهم علامة كافية ليتغير لون التراب إلى البني الحزين فكنتُ أميزهم حتى وأنا مستلقيةً بعيدة عنهم كلهم.
حلمتُ مرة بأنهم أحضروا صناديق معدنية في الليل وكنت متوجسة من صمتهم الغريب لم يُحضِر أحدهم صندوقا معدنيا مختوما من قبل، لم أعرف السر وقتها ولكني عرفتُ بأنها ليستْ توابيت، ثم أني بقيتُ أتقيأ فترةً طويلة واصفرَّ جبيني.
تعودتُ على استقبال أفضلِ الرجال في أحسن الأوقات لأن الرجال طيبي القلب يعرفون كيف يموتون في اللحظة المناسبة.
تعودتُ أيضا أنْ أستفيق على “ولولة” النساء أول الفجر يستسمحن أزواجهن، واحدة ذكرتْ بأنها أخطأتْ عندما قالتْ له بأنها لا تحبه وبأنها كانت ستغادر إلى بيت أهلها، مسحتْ غبار الأحاديث المتراكمة من على شاهدته الباردة وقالتْ مطأطئة الرأس بأنها لن تعيدها مرة ثانية: “التوبة”، يبدو أن زوجها لن يرضَى بسهولة.
أنا مقبرة جماعية أحب تلاوة “السديس”، أرى الحياة من خلال سواد عباءات النساء وبياض جلاليب الرجال، وأحبُ أيضا رش الماء البارد على وجهي في أيام الجمعة، لكن في ليال كثيرة أتمنى لو كنتُ وحيدة مع القمر بدون نزلاء شديدي الحرص على تكرار ذات السؤال قبل النوم: “لماذا شاركني الآخرون البرميل المتفجر؟”، كنتُ أود لو أنّه جاء وعليه اسمي فقط كنوعٍ من مكافأة انتهاء الخدمة.
(سورية)
العربي الجديد