صفحات الثقافة

أنا مُصابٌ بهستيريا الحرب/ علي حسن الحمد

 

 

لم أكنْ أستطيع الكتابةَ لولا أنْ كتبتُ عنكِ. فرّ كلّ شيءٍ من جنازة الغياب المفجعة. فرّتْ كلّ الأغاني التي ثقبَت السماءَ ثقباً آخر إلى

جانب ثقب الأوزون، عبرَه تتسربُ ذاكرتي خارج الجاذبية كطقسٍ من خصوصية الخلق، عبرَهُ سأنجو من المُثُل ومن جبران، عبرَه سأنجو منكِ.

لا سماءَ الآنَ فوقي. هو فراغٌ واسعٌ ممتلئٌ بعواء الحربِ. أرتّب

مواعيد خيبتي، أحفظ التواريخ جيداً، أسمّي الفصولَ بأسماءٍ تختلف عما كانتْ. أسمّيكِ أمساً لا حاضرَ له، وأمشي على دربٍ حجارتُه حنين. كانَ عليّ أن أقع أرضاً، أن أغيب مثلكم كلّكم، لكن بحالةِ نزفٍ دماغيٍّ لأيامٍ خمسة. لا أحلم الآن بأحد، فالنزف أصاب قسم الحلمِ في رأسي. سقطَتْ كلّ أحلامي التي كُنتِها من جهة الشمال. سقط الشروق. سقط نهر الفرات ومرمى الحجر. سقط الدرب المؤدي إلى ضفة الروح. كان كلّ شيءٍ يفضي إليكِ، وكنتِ أبعد من الحلم بحقيقة. سقطتِ الحقيقة. في الحقيقة أنا لا أحبّكِ. أعترف بذلك. اضطررتُ أن آخذ دور عازف البيانو وأن أتظاهر بنسيان الحياة. اضطررتُ أن أعزف لحناً كاذباً مثلكِ وأن أغنّي بصوتِ الحطّاباتِ اللائي نزلنَ عن صليب آبائهنَ وخلعن قيد النشيد. اضطررتُ أن أرقص مثل أمّ الشهيد التي تتظاهر بالفرح وتزغرد لموت ابنها. الرصاصةُ اخترقتْ قلبها فماتَ هو وظلّتْ ترقص إلى اليوم.

سأفرح اليوم. أعدكِ بذلك. حين أسمع أن فنجان قهوتكِ انكسر وتسربّتْ كلّ ذكرياتكِ من زجاج الرغبة، سأشتهيكِ كما اشتهَتْ هندُ كبدَ حمزة. سآكلُ صورتكِ المطرّزة بالشكّ ليغمركِ اليقين؛ أنْ الحبَّ كلُّ ما فعلتُهُ أنا قبل الغياب، وكلّ ما فعلَتْهُ بكِ الحياةُ كان مطراً لغيمةٍ عابرة.

المطرُ الآنَ ماء. الشتاءُ فصلٌ عابثٌ بأصابع الأشجار المقطوعة، والطريق إلى جرابلس غامضةٌ كوجوه الذين يحرسونها من كمائن الروح التي تنبض سرّاً. الشوارع مخمّرةٌ كي لا يُبصرَ الأعمى حفرةَ “مولانا” التي أسقطَتْ سماءً واحدة ومئة وأربع عشرة نجمةً في بركة الماء الأحمر. وحدها تلك التلةُ التي تنتصب كنهد عذراء ظلّتْ خضراء كالفستق الحلبيّ. ظلّتْ تنتظر سقوطي عن خطِّ الخيال في واقع الخطيئة.

كنتِ أكبر خطيئةٍ ارتكبْتُها بقلم الرصاص. رسمتُ شفاهَكِ وهي تقبّل خيط الشمس الملفوف على عنقي. تحتي هاويةُ المجاز، وظلّكِ كان يسندني. تتسارع الكلمات كدقّاتِ قلبي، فأحاول أن أكتب مونولوغاً أخيراً أحاور فيه ظلّكِ الباقي قبل أن أُشنَق بزواله: لو كنتُ أعرف أن الكتابة ستجلب لي فنجانَ قهوةٍ مُرّاً حدّ الثمالة لما كتبتُ. لو كنتُ أعرف أنّكِ الوجع المبطن بالشمس لبقيتُ أسكن الظلامَ كما الآن. كيفَ استطعتِ أن تحبلي بهذا الحزن كلّه؟ كيف استطعتِ أن تنجبيني طفلاً غائباً من دون مخاض، لا اسم له ولا ملامح يبصرها في المرآة؟ كيف سأكتب عنكِ بحجة الشفاء منكِ وأنا كلّما كتبتُ ازداد الشرخُ بيني وبين الآخرين مسافةَ حلم، وازددتُ قرباً منكِ؟

السؤال الآنَ ترفٌ، والإجابة ضربٌ من ضروب الحرب التي تأكلني. لم يبقَ منّي إلا يدي اليمنى ونظارتي. أبي أخذَ حصته، تركَ نصف كأس البابونج وغادر من دون أن يودعني كعادته. أخي كذلك لم ينتظرني كي أصل ثلاّجة مشفى تشرين. خطف هدوء العبرة التي اجتاحتني. أعطاني حضنكِ كي أبكي عليه وترك أمّي تزغرد وتنوح فوق قبري. أخطأتْ بيني وبينهم، دفنتني، احتفظت بأصابعي ونظارتي، وبكتْ عليهم.

أنا مصابٌ بهستيريا الحرب. أعرف ذلك. كلّما كتبتُ شيئاً كان عن الثالوث؛ أبي، أخي، وأنتِ. وكانتْ صلاتي في كلّ نصٍّ للغياب، أنا الذي صُلِبتْ روحه في الساحة العامة بمنبج فغادر يعرج إلى فردوسه، أنا الذي كفر بكلّ شيء وآمن بأحدٍ أحد، ثمّ نام وحيداً كطفل اللقيطة حيث لن يقترفه أحد.

النهار

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى