صفحات الثقافةياسين الحاج صالح

أنا والتلفزيون والثورة


ياسين الحاج صالح

لم أعرف ما هو الشيء الذي كان الطفل الواقف بالباب يريد استعارته، لكنني فهمت أنه من لوازم التلفزيون. – ليس لدينا تلفزيون، قلت له. – ما عندكم! على شو تتفرجوا؟ تساءل، وهو ينظر إلي بذهول.

وجود تلفزيون في البيت هو جزء من نظام الطبيعة في عين الطفل ذي الثماني سنوات، وفي عين أكثر السوريين. وهو من القطع الثابتة في جميع المنازل، بما فيها الأشد فقرا. يوفر للمتعبين فرصة استرخاء وتسلية، وأداة مساعدة في ضبط الأطفال، ونافذة يطلون منها على أحوال الدنيا. لا أعرف بيتا واحدا ليس فيه جهاز تلفزيون أو أكثر. لكن أصدقاء عارفين يقولون إن بيت الدكتور صادق جلال العظم خلا دوما من هذا الصندوق السحري.

طوال أكثر من عشر سنوات عشنا، زوجتي وأنا، في بيت ليس فيه تلفزيون. كنا اتفقنا على ذلك قبل زواجنا، لكن بإصرار مني أكثر مما بحماسة منها. قلما نتابع الأخبار نحن الاثنين، ونعتمد في القليل الذي نتابعه على الإنترنت.

كان دافعي لحظر التلفزيون هو توفير الوقت طبعا. بدا لي التلفزيون سجنا آخر، يستهلك العمر مثل السجن. وعميل للسلطة أيضا. البث الفضائي وسع مروحة خيارات المتفرجين وأتاح لهم مد البصر إلى خارج بلدانهم، لكن التلفزيون بقي جهازا سياسيا جدا، وشديد التمركز حول السلطة وقضاياها، في العالم العربي على الأقل.

لكن في الأساس كان تطور لدي احتقار للتلفزيون وإجلال للكتب. في السجن كان التلفزيون، وقد أتيح خلال نحو نصف السنوات التي قضيتها فيه، والكتاب الذي أتيح خلال أكثر من أربعة أخماسها، قطبي الحياة اليومية. لكن خلف احتقار للتلفزيون تمتزج فيه البداوة والنخبوية هناك غير قليل من الانسحار به، ولعل خلف الإجلال الظاهر للكتب قدر من نفور.

وأظن أن شاشة الكمبيوتر سهلت علي الاستغناء عن شاشة التلفزيون. وفي غيبة االتلفزيون، وتعويضا عنه بقدر ما، كنا نستخدم الشاشة الكبيرة لكمبيوتر سميرة لنتفرج على ما يفترض أنها أفلام مميزة.

كان أصدقاؤنا ينكرون عليّ هذا المسلك المتطرف. الصورة مهمة، يقولون. وكانت سميرة مزدوجة العاطفة حيال الأمر. تحب أكثر مني متابعة الأخبار والأفلام، ولا تريد أن يتعطل زوجها عن أشغاله المهمة. كانت تعرف من التجربة إنه إذا وجد تلفزيون في البيت فربما لا أفعل شيئا آخر غير التفرج عليه. حين كنا نسافر إلى الرقة، كنت أقضي وقتا طويلا مسمرا أمام هذا القفص، أتفرج على مباريات كرة القدم أو التنس، أو على أفلام أميركية، وليس أبدا على أخبار أو برامج سياسية. كان جهلي بكيفية تشغيل التلفزيون أو البحث عن أقنية رياضية أو سينمائية، أو بخاصة كيفية إطفاء الجهاز، موضع تندر لإخوتي، ولا يوفر فراس بخاصة فرصة التهكم من تخلّفي، واستعراض سهولة الأمر. يكبس أزرار جهاز التحكم، وهو يقول باستهانة: أهاااا أهه… وعامل لي حالك مثقف!

مساء يوم العاشر من شباط 2011، دعانا صديق وزوجته لنحتفل قبالة شاشة التلفزيون العريضة في منزلهما بالتنحي المتوقع لحسني مبارك. شربنا ليترين ونصف ليتر من النبيذ، ولم تخرج الجملة الذهبية من فم الطاغية العجوز. عدنا إلى البيت منتصف الليل، بعد مقاومة بطولية من جهتي لمحاولة الصديقين تحميلنا جهاز تلفزيون فائضا لديهما.

لكن تتابع الثورات، ومشاهد ميدان التحرر بخاصة، ثم تفجر الثورة السورية بعد شهر وأيام، أضعفت مقاومتي. وكانت سميرة تشعر أنها في حِلٍّ من التزام متقادم، يعود إلى الأزمنة ما قبل الثورية. بعد نحو أسبوعين من الثورة كان في بيتنا تلفزيون، الجهاز نفسه الذي مانعت مجيئه قبل سبعة أسابيع.

وفي اليوم التالي كان يتملكني شعور بخيانة النفس وأنا أرافق العامل الذي جلب لنا الصحن اللاقط، وركّبه على سطح البناء. لم أكن راضيا، لكن لم أعد قادرا على المقاومة أكثر مما فعلت. لقد أصبحت مقاومة التلفزيون فعلا رجعيا واستبداديا لا يمكن الدفاع عنه.

مع ذلك، لست على استعداد لاعتبار مجيء التلفزيون حدثا ثوريا، وإن تكن الثورة هي من شفعت له بالمجيء. سنرى بعد الثورة: أنا أم هو في البيت!

لكن لم أكد أرى شيئا على تلفزيونـ”نا”. في اليوم نفسه أو في اليوم التالي تركت البيت.

في كل المنازل التي أقمت فيها خلال أربعة عشر شهرا من الثورة كان هناك جهاز تلفزيون طبعا، وفي اثنين منها بشاشة كبيرة. وكان علي أن أتعلم تدبير أموري بالتي هي أسهل للوصول إلى الأقنية التي أريدها.

اليوم التلفزيون شغال ما دمت مستيقظا. أثناء عملي على الكمبيوتر، أو حتى أثناء القراءة. لكن وقت العمل يكون على محطات إخبارية، ووقت القراءة على أقنية سينمائية أو، اليوم، رياضية. في منزلي الحالي لا يلتقط الصحن اللاقط أقنية إلا على الهوتبيرد فقط. وهذا لم تبرمج عليه أية أقنية سينمائية. لكن لدي أكثر من قناة إيطالية لعرض الأزياء، أو بالأحرى لعرض أجساد نساء شابات طويلات القامة، يرتدين من الثياب ما قل ودل. ولأسفي الشديد انقلبت القناة الإيطالية المتخصصة بالتنس إلى قناة إسلامية باللغة الانكليزية!

الثورة السورية لم تضعني في مدار حول التلفزيون فقط، وإنما جعلت مني لبعض الوقت معلقا عبر الهاتف على مستجدات الشأن السوري على بعض الأقنية الفضائية. قلما كنت مرتاحا لتلك الظهورات الصوتية السريعة التي لا يتجاوز أكثرها ثلاث دقائق. وفوق ذلك كان كلامي غير مفهوم حسب أصدقاء كثيرين: أتكلم بسرعة وبصوت خافت، وأقرط بعض الحروف، وأتكلم مثلما أكتب! وهذا أوهن نفسيتي القلقة أصلا، فكان أن تخليت منذ الصيف الماضي عن الهاتف نفسه، وتوقفت عن أداء دور المعلق. لا أرى أني خسرت شيئا، ولا أظن أن أحدا خسر.

السفير

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى