صفحات الناسعمر قدور

أنبياؤنا الصغار/ عمر قدور

 

 

ينبغي ألا تشعر بالدهشة، في نقاش عن الوضع السوري، إذا انبرت ناشطة للقول بأن سبب فشل الثورة السورية هو تحالفها مع قوى ذكورية. قد يزيد عليها ناشط آخر قائلاً: مشكلة الثورة أنها لم تحاول كسب مجتمعات الطلاب والشباب في الغرب، ما أفقدها شريحة هامة من المتعاطفين. بالتداعي قد يتذكر ناشط أو ناشطة من الحاضرين أن الثورة تجاهلت أيضاً أهمية التشبيك مع مجتمعات “ميم”، وإذا كنت لا تعرف الأخيرة فمن المستحسن ألا تظهر جهلك الفادح بهذا الاختصار الذي يحتوي على فئات تبدأ أسماؤها بحرف الميم هي: مثليّون، مثليّات، مزدوجو الجنس، متحوّلو الجنس.

على أية حال، من المستحسن عدم النظر إلى الاستهلال السابق كرسم كاريكاتوري ساخر، فالسخرية يجوز تصنيفها في مثل هذه الحالات على أنها نوع من العنف اللفظي، وإذا أتت من رجل فلا يُستبعد أن تحمل فائضاً من العنف الذكوري، بوعي من صاحبها أو من دونه. بل ربما كان من الأفضل تجنب هذا المدخل، والبدء بدلاً منه بالحديث عن دينامية الثورة معرفياً، حيث أتاحت نقاشاً عاماً أو “نخبوياً” أحياناً في قضايا لم يتح للسوريين التحاور فيها من قبل، مثلما أتاحت ذلك الخروج من القمقم والانتماء إلى العالم الرحب بعد انقطاع دام عدة عقود.

حقاً بإمكان المتتبع لنقاشات السوريين على مواقع التواصل الاجتماعي رؤية ذلك الصخب الذي لا يكاد يهدأ، نقاش شبه يومي في كل شيء، بدءاً الحديث في توازنات القوى الدولية مروراً بتفاصيل الوضع السوري السياسي أو العسكري، وليس انتهاء بفضائح المنتج الأميركي هارفي واينستين. قضايا مثل قضية المثليين، أو الحق في اختيار الهوية الجنسية لأي شخص، تجد لها موضعاً عندما تكون هناك مناسبة له. وأيضاً قضايا النسوية لا تغيب بإصرار بعض من حاملات أو حاملي لوائها، أو بسبب مراوحة المعلّقين عليها بين التعاطف والمزاح. وما بين ذلك كله لا يسلم كثرٌ من النقد أو السخرية، وثمة ركن لتبادل الشتائم على أرضية كل النقاشات، وبالطبع على أرضية العداوات الشخصية.

إلا أن النقاش العام، على أهميته وتأثيره، مختلف عن النقاش السياسي، إذ يُفترض بالأخير النظر إلى الوقائع أيضاً، لا الاكتفاء بما في الرؤوس. الحالة السورية قد لا تكون استثناء في المنطقة، من حيث وفرة التطلعات النبيلة والمحقّة مع شحّ شديد في إمكانيات الوصول إليها. إلا أنها خلال السنوات الأخيرة بقيت الاستثناء الأكثر دموية ووحشية، وهذا يصنع فجوة هائلة على سبيل المثال بينما من هم مهددون كل لحظة في حقهم البسيط في الحياة وسوريين آخرين يرون قضايا مثل “الجندر” أو حقوق المثليين راهنة وملحة على نفس الدرجة من الأولوية.

نشطاء، بعضهم ليس بعيداً عن قنوات التواصل مع هيئات دولية مقررة في الشأن السوري وبعضهم من النوع المفضَّل لدى تلك الهيئات، لن يكتفي الواحد منهم بدستور ينص على المساواة التامة، وعدم التمييز على أساس العرق أو الجنس أو المذهب وفق المواثيق الدولية. هو يريد نصاً أبعد من ذلك، تُحل فيه قضايا تمكين الفئات الضعيفة أو المهمشة تاريخياً، ويشترط إقراراً دستورياً واضحاً بعلمانية الدولة، حتى إذا لم يرد هذا عالمياً سوى في دستورين فقط. يمكن أيضاً لناشطنا مناقشتك في قصور المواثيق الدولية، ما دامت القوى المسيطرة عالمياً قوى تسلط “وتسلط ذكوري حتى”، فأكبر قوة دولية ستجد في سجلها جريمة كبرى مثل إبادة السكان الأصليين، وجريمة لا تقل هولاً مثل استخدام السلاح النووي.

قد يتهمهم البعض بخلط الأولويات عمداً. لكن، إذا تجاوزنا لغة الاتهام تلك، فلن يدخل في باب الإساءة إليهم وصف طريقتهم في التفكير بالرسولية. هم فوق دنس السياسة ومساوماتها، ومن المتوقع ألا ينال منهم “أرْضِيُّو” السياسة سوى الاحتقار. هم أيضاً فوق الثورة التي حصلت يوماً، حتى إذا شاركوا في بداياتها، فهي إما قد سُرقت منهم من أولئك الذين أفرغوها من محتواها النقي، أو أن البعض منهم قد خُذِل حقاً بأن من شاركوه الثورة لا يشاطرونه نبل مقاصده، يستوي في هذا العامّةُ والمثقفون، مع مسؤولية أضخم على عاتق الأخيرين بوصفهم مدّعيي ثقافة بينما يقبع تحتها كل ما هو شائن.

قد يصحّ القول بأنها أيضاً رسولية ممتنعة، فأصحابها لا يساورهم همٌّ تبشيري؛ إنهم غالباً مكتفون بذاك الإحساس النبوي. ربما ما يعوّض أية شهية تبشيرية هو الإحساس بالانتماء إلى ثقافة فوق محلية، مع اليأس من المحلي وأزماته الأدنى في السلم الحضاري. لكن هذه الرسولية لم تأتِ من خارج المحلي فجأة، فإلى عهد قريب كان أصحابها يعيشون الانغلاق السوري ذاته، والانسداد السوري ذاته. بل إلى عهد أقرب كان أصحابها يحسبون أنفسهم من ضمن الثورة ذاتها، وهم حتى اليوم يعتبرون أنفسهم الأكثر جدارة بتمثيلها، إنما من دون الخوض في وحل السياسة، ومن دون تقديم أدنى تنازل تفرضه تحالفات السياسة. الثورة بهذا المعنى إما أن تكون شاملة وراديكالية إلى أقصى حد أو لا تكون، أو بالأحرى عيبها الذي أدى إلى الفشل أنها لم تكن هكذا. والحق أن ثورة متوخاة على هذا النحو تملك جاذبية شديدة، وتملك تلقائياً القدرة على وضع من يتحفظ عليها خارجها.

قبل نحو ثلاثة عقود كان الناقد محمد جمال باروت يطلق علينا بمحبة وسخاء تسمية الأنبياء الصغار، كنا مجموعة شعرية في الجامعة، مجموعة تعتبر ذاتها مشروعَ قطيعة مع السائد. كان أكثر ما يستهوينا مفاهيم مثل “القطيعة المعرفية” و”الهامش”، تحديداً الهامش كخيار لا بموجب الإكراه. حاولنا مراراً صياغة بياننا الشعري الخاص على غرار حركات شعرية مؤثرة في تاريخ الشعر لكننا لم نتفق على تفاصيله، وكانت تلك الجلسات تنتهي باختلافات لم نتوقع وجودها بيننا. منذ ذلك الوقت حتى اليوم أصدر كل منا مجموعاته الشعرية، إلا أن عددها جميعاً لا يتجاوز ما أصدره شاعر غزير مثل محمود درويش أو نزار قباني. لكننا كنا أنقياء حقاً، ومخلصين للشعر إلى درجة قد لا يطيقها سوى القلائل. في الوقت نفسه كانت مخابرات الأسد قد أجهزت وتجهز على كافة المعارضين أيامها، أصدقاء لنا أو معارف كانوا قد اعتُقلوا أو في سبيلهم إلى الاعتقال، ونجونا من مصيرهم ربما بفضيلة عدم خلط الشعر بالسياسة.

لعل الإشارة إلى مصدر عنوان “الأنبياء الصغار” تخلصه مما قد يتخلله من دلالة سلبية، مع الاحتفاظ بما فيه من سخاء جم.

المدن

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى