“أنتروبولوجيا” الصراع السوري
دمشق ـ غازي دحمان
لم يعد بالإمكان إخفاء طبيعة الصراع الدائر في سورية، على الأقل في تجلياته وتمظهراته الأخيرة، إذ طالما عكف الناشطون وأصحاب الرأي على محاولة رفض تصوير ما يجري في البلاد على أنه إقتتال أهلي، وربما كانوا في ذلك يقفون عند توصيف اللحظة الأولى من الثورة، قبل أن تشهد البلاد عمليات الفرز الهائلة والاصطفافات التي جرت في عمق المكونات السورية، أو ربما لأن ذلك يناقض حلمهم في ثورة مدنية تأتي بدولة مدنية عصرية ومتنورة، قبل أن ينجح النظام وأعوانه الإقليميون والدوليون بتحويلها إلى حرب أهلية، تشكل طوق نجاة للنظام الحاكم، علّها تحمل بذرة الخلاص من الثورة، أو على الأقل التأكيد بان نموذج الممانعة إن سقط فليس بفعل ثورة، لأنه “هو الثورة ذاتها”، وإنما بفعل مؤامرة خارجية، أو نتيجة تخلف المنظومة الإجتماعية التي لم تستطع هضم إنجازات نظام الثورة على مدار خمسة عقود، وترفض إعطاء النظام فرصة كافية لتطويرها!
وفي الواقع، ليست حال الصراع بين المكونات السورية حال مستجدة. صحيح أن تمظهراتها في السابق لم تكن بمثل الوضوح الذي نشاهده اليوم، إلا أن الذاكرة الإجتماعية لمختلف المكونات السورية تحمل الكثير من الحكايات والقصص، بعضها مشوّه وبعضها مختلق وبعضها فردي، لكنها تشكل أحد منابع ثقافة السوريين تجاه بعضهم البعض، كما أن سلوك السوريين تجاه بعضهم البعض يصدر عن هذه التوليفة، ومن الأسف أنه ترك التوليفة تتفاعل وتتعبأ وتتشوه من دون ان يبذل أحد جهداً في هذا المجال، فيما ظل السوريون عقوداً من الزمن يعيشون في ظل لعبة تكاذب هي الأطول ربما في التاريخ.
ويبدو أن المستعمر الفرنسي كان الطرف الوحيد الذي يعرف حقيقة الأمور في سورية، ربما لأن رجالاته كانوا يقفون على حقيقة الأوضاع نتيجة مصارحة السوريين لهم، وإنكشافهم أمامهم من دون أقنعة وحيل، ولذلك عندما أقدم على تقسيم سورية إلى دول طائفية كان يعتقد انه يقدم خدمة جليلة للسوريين قبل مغادرة البلاد. لكن الواضح أن دهاء السوريين، وشعورهم بضعف فرنسا وإقتراب خروجها من مسرح التأثير الدولي، هو ما دفعهم الى الإنقلاب على الصيغة الفرنسية، والقبول بوحدة سورية إلى أن يقدر الله أمراً كان مفعولاً.
في السنوات الأولى التي تلت خروج فرنسا من البلاد إستطاع السوريون تجاوز الحرب الأهلية عبر الإلتفاف على مظاهرها، بمعنى عدم السماح بإنفلاشها في الشارع، ربما لأن الجميع لم يكن على إستعداد كاف لخوضها، وكذلك لعدم وضوح قدرة كل طرف، ثم ولسبب أهم لعدم توفر خطوط الإحتكاك المباشرة بين الفرقاء، نتيجة حال الإنغلاق التي كانت تعيشها مختلف الطوائف في مناطقها. ونتيجة لذلك، جرى حصر الصراع في المجال الذي يوفر كل هذه العناصر، وكان الجيش في ذلك الوقت الجهة التي يتواجد فيها كل أبناء الطيف السوري ويحتكون ببعضهم البعض، ولازالت الذاكرة السورية تختزن ذكريات الصراع المرير الذي خاضه أبناء الطوائف للسيطرة على الجيش، ومن ثم تغيير موازين القوى لصالح هذه الطائفة أو تلك.
ويمكن القول أن تلك المرحلة حدًدت الفئة الغالبة في هذا الصراع، وبات المطلوب هو تعميم هذا الإنتصار عبر فرضه على بقية المكونات، مرة عبر بعض التنازلات المحسوبة، ومرة أخرى عبر القوة العارية، لكن دائماً كان يُراد للوجدان السوري هضم هذه الحقيقة وإعتبارها نهاية تاريخ الصراع السوري، عبر قبول العلمنة الشكلية والعروبة الشعاراتية بديلاً مرضياً ومناسباً للجميع، وإعادة صياغة الهوية السورية بناءً على هذا التراضي المتصور.
غير ان النظام الحاكم لدمشق لم يجهد نفسه كثيراً في السعي لترسيخ الهوية السورية الجديدة، كما لم يسعَ إلى إحداث الإندماج الإجتماعي، الذي من شأنه أن يكون حاملاً للمشروع المقترح، وضامناً شرعياً لإستمراره، بل تبين أن النظام لم يكن حتى جدياً في الدفاع عن مشروعه ذاته، وقد فاجأته وأحرجته بعض القوى الوطنية بإصرارها على تنفيذ هذا المشروع، الذي لم يكن يمتلك تصوراً حقيقياً لأبعاده، كما لم يكن مستعداً للإنخراط فيه بما يكفي، كيلا ينزع منه وهج الإنتصار الفئوي التاريخي، وكان أن بدأ حملة قمع رهيبة هدفها الأساسي إفهام الآخرين أن سورية الجديدة باتت من نصيب جهة محددة، وربما هي التي شكلت الإرهاصات الأولى لشعار “الأسد أو لا أحد”.
على الصعيد الإجتماعي، لم تساهم سيولة النزوح الريفي إلى دمشق، من مختلف أبناء المكونات الطائفية والعرقية، بصياغة نمط من التصاهر والإندماج المجتمعي. بل على العكس من ذلك، عملت على تعزيز الصور النمطية المشوهة لدى المكونات عن بعضها البعض، ذلك أن أغلب هذه المكونات نقلت معها، ليس عاداتها وتقاليدها وقيمها، بل حتى أواني الطبخ وعدة الشاي والمتة، وسكنت فيما يشبه الغيتوات المغلقة، وكان لوجودها في دمشق وظيفة محددة هي تحصيل المنافع من الدولة وإعادة إرسالها إلى أريافها. وبالتالي، فإن غاية وجودها في دمشق لم يكن الإستقرار الذي ينتج عنه الإندماج والتكافل وتشكيل الجسد الوطني الواحد.
من جهتهم، ظل أبناء دمشق ينظرون الى هؤلاء الوافدين بصفتهم أناساً أقل تحضراً ومدنية، وبالتالي فإن المجال المشترك معهم لن يكون سوى البيع والشراء، بمعنى إختصار العلاقة إلى أدنى حدودها، والقبول بذلك، إلى أن يقدر الله أمراً كان مفعولاً.
واليوم ينفجر الصراع عارياً وبكل وضوح ومن دون الحاجة للتكاذب، وقد إتضح أن الوحدة الوطنية تنتعش في سورية فقط في ظل معادلة الغالب والمغلوب. وحينما يصار إلى تغيير قواعد اللعبة فإن ذلك يصبح خطراً يستوجب التصدي له. هل ينتهي هذا الصراع إلى تقسيم سورية؟ ربما، وربما ينتهي بتسوية معينة، لكن الأكيد أن هذا وذاك لن يتم قبل يأخذ قسطه من دماء أبناء السوريين، أو من يسمون بذلك حتى هذه الحظة.
المستقبل