أنتَ حيٌّ إذا/ نجاة عبد الصمد
أنتَ حيٌّ إذاً! تُخفي إنجازكَ الرفيع هذا؛ كأنه عيبٌ أو خطيئة. فأنتَ، بعينيك غير المطفأتين، شاهدٌ حيًّ على قدوم سنة جديدة تواصل الحرب دمغها بالأحمر القاني. حربٌ كاملة الأوصاف، وشديدة الفخر بإتقانها كل صنوف الموت، فيما أفلتَّ أنت، لتبقى الشاهد الحيّ على نقصانها. ولربما أنتَ جريحٌ أو منكوبٌ أو معطوبٌ أو ثاكل أو مهجور، إنما أنتَ حيٌّ، ولا تزال في بلدكَ، بل في بيتكَ بالتحديد، تتأمّل طبق القشّ هذا الذي أورثتك إياه جدتكَ، لا يزال معلّقاً في مكانه على الجدار، ولم يُسرَق ولم تشحطه قذيفةٌ نحو تلال الركام التي غدتْ تضاريس لبلدك. تُغلق مصفاةَ قلبك على شكرٍ خجول، أنّك تامّ السلامة من دمارٍ شاملٍ اسمُه الحرب، وأنّك تعي أنّ سلامتكَ تعني ضمناً موت آخرين لا تعرفهم أنتَ، كان يمكن أن تكون يد أحدهم تخطّ هذي الكلمات الآن بالإنابة عنك. وأنت المأخوذ ببهجة البقاء حياً، لم تعتذر لهم بعد عن حياةٍ كسبتَها بمصادفة أنهم ماتوا!
قد تعتذر، إن كان الاعتذار يكفي؛ بأن تحمل فكركَ ومعولكَ، وتمضي في فرصة العيش الباقية.
هي الفرصة الضائعة إلا قليلاً.
فرصتكَ في أن تمتلك قلباً، في ألاّ يموت فيكَ الشعور، في أن تنثر الجمال وسط وابل الألم، في أن تتفهّم المنكوب وتتعاطف معه على قدر الأسى والضيم الذي نابه. في القدرة على تجرّع الصبر كوسيلةٍ للبقاء، من دون التخلي عن الكرامة.
في التشبّث بـ”ضرورة الكرامة”، وضرورة حصتك الشخصية من الكرامة.
فرصتك في استقلال رأيك، في إعمال العقل، وصونه من المصادرة، وفي الحرص على الضمير، والإخلاص في العمل.
في البحث عن أفراحكَ الصغيرة، في أن تخلق الرغبة بالحياة، في أن تصوغ لنفسكَ حياةً كثيفةً وسط عبث الموت.
في ألاّ يغتالوا منكَ الحلم، وألاّ يُفقدوكَ متعة الخيال ولا سعته، ولا المتعة والدهشة في طريق البحث عن المعرفة.
في إدراك هويتكَ الآدميّة، في ألاّ تدمّرها بإيديولوجيات السلطة والدين المسيّس.
أخيراً، فرصتكَ في اليقين بأن مارد الحياة الذي استفاق فيك، هذا المارد المنكوب والثاكل والحزين حتى الأسى، لن يعود في أيّ حالٍ إلى عنق الزجاجة.
هي فرصته أن يقول للطغيان: لا. هنا وسط لهيب الوطن، لا في برد المنفى.
النهار