صفحات الثقافة

أنخل جيندا: تلك الكلمةُ التي لم تجدْني بعد

 

 

ترجمة أحمد يماني

ولد أنخل جيندا في سرقسطة، إسبانيا عام 1948 ويعد واحداً من أكبر شعراء إسبانيا في الوقت الراهن. درس الطب لكن سرعان ما هجره ليصبح بعد ذلك مدرساً للغة والأدب الإسبانيين. ظهر كتابه الأول في أواخر السبعينيات. قام بجمع شعره في أوائل الثمانينيات ونشره في ديوانه «حياة نهمة». انتقل للعيش في مدريد منذ عام 1987. المرحلة المدريدية أضافت إلى شعره أبعاداً أكثر وجودية، وانشغالاً بالقلق إزاء الشعور بالوحدة ومرور الزمن. من هذه الفترة يبرز ديوانه «السيرة الذاتية للوفاة».

في الألفية الجديدة، حملته الرغبة في التواصل إلى شعر أكثر انفتاحاً وأكثر تضامناً ما جعل جمهوراً واسعاً يتماهى مع قصائده، وخاصة في ديوانه «قصائد من أجل الآخرين». خلال مسيرته أيضاً، ترجم أعمالاً عن الفرنسية والبرتغالية. حصل عام 2010 على جائزة الآداب الأراجونية. ومن كتبه الشعرية الأخيرة نذكر: «طيفيّ»، «صندوق الحمم»، «الصرامة الذاتية»، «مواد الحب».

 

شطرنج

 

شطرنج المفاهيم الخفية. أين أنا؟ الشارع الذي يدعوني يختلج كثيفاً، نصف شفاف، مقوساً. أدوس الأرضية المدهشة هذه وأطفو! حبوب لقاح، نسر أميركي كبير، رائحة، تنفس. يتحرك كل شيء عندما أكون هادئاً! كل شيء هادئ عندما أتحرك! من كثرة الاختلال أتوازن! فرن الجليد الذي هو جلدك، مكابح ريح الغياب. النجوم لا تسأل من هي أو ما أنا! أنا الرادار الذي يكشف ما لا يقوله الرعد، اختفاء لشبونة عندما ظهرت أنت. أنت عطش الرغبة لما يضيء، نزوح الممكن، خفاء الخفقان، ضوء الرعشة المكسور!

 

رأسي تملؤها الأصوات

 

رأسي تملؤها الأصوات! أصوات أشباح، أصوات جديدة، للقدر، مجهولة أو تنبؤية، أصوات من مركز الأرض، أصوات قلقة، مكممة، معدنية، من الزجاج، أصوات من الغاز، من الكلوروفورم، أصوات جوفاء من سراديب الموتى، من الروبوتات، من الأسلاك، أصوات مقطعة الأوصال. رأسي طبق رنّان، برج جرس، قرع طبول من الأصوات! أسمع أصواتاً تتراكم، تدهس، تكسر سكوني، تترنح. أصوات من العطش، من الحجر، من الخشب، أصوات من الأبدية، مطمورة، أصوات من الزمن، من الهاوية، أصوات من الظلام، والزلازل والبراكين والإنذارات. رأسي مرصد أصوات مسحورة، وحيدة، أصوات من الشقق والقصور، من المخابئ، من الأكواخ، من الحانات، أصوات مفقودين، من الإنهاك، من الحرب، من النجدة، من غرقى يهدؤون الغيوم. أرى أصوات الكوابيس. ألمس أصواتاً من الأوكسجين، سرية، مهاجرة. أصوات تنزف، أصوات هيكل عظمي، أصوات من الزهور، من الصخور، من الحيوانات، أصوات بلا مقبرة، أصوات دون أصوات منفية. لكن دائماً أسمع أصواتاً، أصواتاً، أصواتاً. صوتي نتاج كل الأصوات تلك.

 

صناديق

 

يمكن أن تقول ذلك هنديةٌ حمراء وتكون على حق.

«حياتكم منظمة في صناديق.

تولدون ويضعونكم في صندوق صغير،

بيتكم صندوق والغرف صناديق أصغر،

تصعدون إلى البيت في صندوق

وتهبطون منه في صندوق.

تسافرون في صندوق.

تنامون وتمارسون الحب فوق صندوق.

ترون العالم عبر صندوق.

تغيرون البيت: وتضعون كل شيء في صندوق.

المصارف وصناديق التوفير تجني الصندوق

وعندما تموتون يدخلونكم في صندوق».

كل شيء تم من أجل أن نتصندق.

تُصندقُنا الحياة.

بعضنا لا يتوافق ويتفسخ.

 

سيرة ذاتية

 

«إذا لم تكن حياتي هي هذا

فماذا تكون الحياة؟»

(مارتن آدم)

تسألني بغتة عن حياتي.

بماذا يمكن أن أجيب؟ بماذا وبأية طريقة؟

ما أعرفه عن حياتي تمحوه بقدر ما أعرفه عنها:

الكلمات لا تصل، الذكريات تتضبب.

حياتي هي ما فعلته،

ما لم أفعله وما تركت فعله.

كي تعرفي حياتي فكّري في الموت؛

فكري فيك أنت الحيّة وعليك إنقاذي.

لا أعرف هل سيكون لدي وقت

كي أحيا ما لم أحياه، كي أقتل ما حَييتُه،

كي أحيا الموت قبل أن أموت.

حياتي تتلقى تعليمات من حيوات أخرى قبلي،

والتي أخدمها كوارث أمين، وتحيا في من جديد

ليس لدي عينان إلا لتريا ما لا أرى.

حياتي ليل لا يتواءم مع النور،

نجم هارب هائم في البريّة؛

إنها كذلك الكلمة التي لم تجدني بعد،

الرسالة الغامضة التي لن أفضّ رموزها.

رغم أن حياتي الحقيقة ربما ستخترع نفسها.

 

الموت

 

الموت هو ألا تعود موجوداً

في الساعة نفسها،

في الأماكن نفسهم،

مع البشر نفسها.

لا تظهر كل صباح

مثل ذلك الضوء الجديد العظيم

الذي يحل بين الأشياء؛

ترك العمل يتعطل،

السفر في طريق مسدود

بعيداً عن البحار والنجوم.

الموت أن تكون ساكناً، أصمَّ

كفيفاً، أبكم، في عداد المفقودين،

مقطوعاً عن الجميع وعن كل شيء،

عنا أيضاً؛

عدم العودة إلى البيت نهائياً.

ألا ترسل إشارات وألا تستقبلها كذلك.

الموت هو ألا تعود.

 

النظام الجديد

 

لا بد أن يتغير لا نظام العالم.

إعلان حالة الأزمة الدائمة.

من الآن سيولد الأطفال بسكنٍ لهم.

السكان كلهم مهاجرون.

الشراكة تمنح الأولوية للفرد.

تقنين المخدرات الطبيعية.

دعم التضامن.

يُمنح الشباب معاشات تقاعدية.

المسنون سيكونون في وضع امتياز.

تُعلن الحياة كمادة دراسية.

الموت يستردّ قيمته الروحية.

توضع قيود على ميزانية الدفاع.

اختراق الحدود حتى اختفائها.

إذا أضر الإخلاص بالصحة النفسية

يفك الحصار عن صيغة الزوجين.

ممارسة السلطة تُجدد سنوياً.

يتم سكنى الجُزُر الكنسية.

يحذف الاستهلاك الزائد.

يتم العمل من أجل العيش

لا أحد يعيش ليعمل.

يسمح بالحلم بواقع آخر.

إلى آخره، إلى آخره، إلى آخره.

 

الساعاتي

 

يوماً ما طرح القط ساعتي أرضاً وهو يلعب

كفّت آلاتها الدقيقة عن الحركة.

الساعاتي، متذمراً ومتأففاً، بينما يفحص عقاربها،

غمغم، بتهكم: «الأفضل أن نشغل الزمن

بدل أن نفرغه».

تلك الكلمات، منذ ذلك الحين،

لم تدعني في سلام.

 

الخيول

 

تدوي في زنزانتي دعسات تتقدم إلى الأمام، تتقدم إلى الأمام.

(لعله خَبَبُ حوافر الخيل الجامحة والتي هي أفكاري

تشق لها طريقاً بين الصفاء والعدوانية والاكتظاظ).

في تلك الزنزانة ثمة العديد من التلاقي ومن الهجر، العديد من الصخب، من السيول، من العوالم.

العديد من الفيضان ومن وابل الثلج، والتي سوف تفجر قضبانها رأسي التي هي زنزانتي.

إلى أين يحمل الفزعُ هذه الخيول؟

تخبُّ وتخبُّ الخيول متقدمةً نحو البعيد، مربوطة إلى ظلها، بلا وجهة محددة، تُعميها الشمس.

 

المهاجرون

 

المهاجرون يسيرون في الشوراع بأكفان على أكتافهم،

بشواهد قبر على أكتافهم، بالصلبان على أكتافهم،

بالدموع على أكتافهم، بقلوب في أيديهم. السماء فوق الصحراء

في نظرتهم. بعائلة وبلد مخبأين في رؤوسهم.

للمهاجرين الكثير من الأكتاف، الكثير من القلوب، الكثير من الأيدي،

الكثير من الأرجل.

يدخلون المتاجر، البنوك، محلات المكالمات الهاتفية، البارات:

بصور مؤطرة تحت ذراع، وتوابيت تحت الذراع الأخرى.

لا أحد يرى تلك الأكفان، تلك الشواهد، تلك الصلبان،

تلك الدموع، تلك القلوب، تلك العائلات، تلك البلاد، تلك الصور،

تلك التوابيت ولا تلك السماوات ولا الصحارى.

إنهم لا ينظرون في عيوننا، يعرفون أننا عميان.

الأخبار

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى