أنطولوجيا جديدة اختارها صالح دياب: جماليات الشعر السوري إلى الفرنسية/ هاشم شفيق
معدودة هي الأنطولوجيات الشعرية تلك التي تنقل تجارب وملامح وتيارات ورؤى وأساليب الشعر العربي إلى اللغات الأجنبية، كونها تعتمد على الجهد الشخصي للمبدع العربي المقيم في البلاد الأجنبية، وليس على المعاهد المتخصصة، وعلى المراكز الثقافية والمؤسسات المهنية والإبداعية المختصة بحقول الترجمة في البلاد العربية، فآخر هم البلدان العربية، هو ترجمة آدابها وفنونها ومنتوجاتها الجمالية، إلى لغة ثانية، فهي منشغلة بالقضايا الدينية والمذهبية والطائفية، أكثر من أي وقت مضى، وليس في وارد برامجها المستقبلية الالتفات إلى الآخر، لإيصال صوتنا الإبداعي إليه، وليس إيصال حروبنا واختلافاتنا وكراهيتنا بين بعضنا إليهم، لذلك هم يعرفوننا جيداً، يعرفون أن العالم العربي لا تشغله القضايا الجوهرية، بل تشغله المناكفات العرقية والمطارحات الدينية الماضوية، ومن هنا ترى المذاهب الأصولية تروّج للتباعد والتباغض ونبذ الآخر ليل نهار. والآخر أو الآخرَوية، تأتي في أدنى سلم اهتماماتها ومشاغلها اليومية المنحصرة بالتطييف، وتأكيد الأولوية للطائفة والمذهب وللشريعة القبلية، بغية الأخذ بمناسكها ومباذلها، ومن ثم يُصار بعد ذلك لتصدير الجهل إلى العالم، كوننا نحسن إنتاجه وتصريفه وتسويقه إلى الخارج.
لذا تبدو المحاولات الجمالية التي يقوم بها الأدباء والمبدعون الذين يعيشون في أوروبا وأمريكا، والدول الأجنبية الأخرى، من جهود ترجمية تسعى إلى إيصال صوتنا إلى الآخر، المختلف في ثقافته ونمط عيشه والبعيد عنا، وإن بالنزر اليسير، تبدو في نظرنا عملاً ثقافياً جباراً، يستحق الرضا والتهليل، كون هذا المبدع العربي يدأب وينشط ويجتهد بما يمتلكه من مقومات شخصية بسيطة، ولكنها هامة، وهي الخيال والمعرفة والإبحار في الآخر، في محاولة لسبر عالمه واستكناه مفاهيمه وأحاسيسه ومشاعره، مستخدماً في ذلك، وسائله وأدواته الفنية والثقافية الخاصة، للمضي في الاستبطان اللغوي والفني والتعبيري واللفظي، والموسيقي للآخر، للغة المنقول إليها الشعر العربي، المتميز بخواص إيقاعية ونغمية ثرَّة، تجعله خليقاً بأنْ يتبوأ بفضل هذه الخصال مكانته الخاصة بين تيارات وتجارب الشعر العالمي.
البديل الجمالي
في ظل هذا المسار الترجمي، والانهمام بأبعاده الخلاقة، يقدم الشاعر والمترجم السوري المقيم في فرنسا، صالح دياب، أنطولوجيا جامعة ووافية وضافية، في سياق التراجم لشعرنا العربي السوري، إلى القارئ الفرنسي الذي تعوَّد أن يتلقى مشاكلنا ومصائبنا وجوائحنا عبر الميديا العالمية، التي تبشر بخرابنا وتزيد عليه، لتضفي على عالمنا طابع الحروب والتناحر والاقتتال الساري فيما بيننا نحن العرب.
يقدم دياب للأنطولوجيا بمقدمة شاملة، دقيقة وعميقة، وفيها تسليط للضوء على تجارب الشعر العربي الذي بدأت ملامحه تتحول من الشعر الكلاسيكي المعروف بالعمودي، إلى الشعر الحديث الذي بدأت ثورته التجديدية، كما يوضح دياب، على يد الشاعرة العراقية نازك الملائكة، ومن ثم رفاقها العراقيون الآخرون مثل السياب وعبد الوهاب البياتي وبلند الحيدري، وتسمية هذه الطريقة الجديدة في الكتابة الشعرية المفاجئة والمغايرة للشعر التقليدي بـ «الشعر الحر»، ولكنها ظلت، أي الملائكة، ملتزمة ببحور الشعر العربي، تلك التي ذهب دياب إلى ذكر بعضها مثل الوافر والهزج والمتقارب والمتدارك والرمل.
بعد ذلك يتطرق المترجم في مقدمته المستجلية لتجارب شعر الحداثة والشعراء المُحدثين، إلى رموز ورواد قصيدة النثر العربية، بادئاً بالماغوط السوري، ومن ثم بأنسي الحاج اللبناني، وكذلك شوقي أبي شقرا وأدونيس ويوسف الخال وتوفيق صايغ وكمال خير بك ونذير العظمة، معرجاً على مجلة شعر، وتأثير وترجمات سان جون بيرس ورينيه شار وانطوانان آرتو وبودلير ورامبو، وكذلك الشعر الأنكلوسكسوني من أمثال، تي أس اليوت وإزرا باوند وويتمان، دون أن يغفل بالطبع سوزان برنارد صاحبة كتاب «من بودلير حتى أيامنا»، وهو الكتاب الشهير الذي بشر بقصيدة النثر الفرنسية، تلك التي أثَّرتْ فيما بعد بالشعر العربي، ووسمته بالتسمية ذاتها، كما هي نُقلت مترجمة على يد أدونيس، الذي سارع إلى كتابة هذا النوع الجديد في قصيدته «مرثية القرن الأول»، وأنسي الحاج الذي نظّر لها في مقدمة ديوانه الأول «لن»، مستعيناً بما قالته وسطرته الناقدة والكاتبة الفرنسية سوزان برنارد في كتابها.
تبدأ الأنطولوجيا بالشاعر خير الدين الأسدي 1900 ـ 1971، وهو شاعر رومانتيكي، تميل قصيدته إلى التداعيات الشفافة، وتخاطب في الغالب امرأة ما، إنه نوع من الخاطرة المأنوسة والمطبوعة بطابع رومانتيكي، ككتابات تلك الفترة القريبة من الأجواء الريحانية ونثرها الميّاس، وتنتهي الأنطولوجيا بالشاعر لقمان ديركي 1966 ومعد الأنطولوجيا صالح دياب 1967.
جمهرة الشعراء
كُتِبَتْ مقدمة الأنطولوجيا بالفرنسية، دون مقابلها العربي، عكس الشعر الذي حمل النسقين العربي والفرنسي، أي كل قصيدة مكتوبة بالعربية تواجهها في الصفحة المقابلة ترجمتها الفرنسية، والأنطولوجيا بضخامتها وشموليتها وشساعتها الفنية، ضمت كلا من الشعراء خير الدين الأسدي، بدوي الجبل، عمر أبو ريشة، أورخان ميسَّر، يوسف الخال، نزار قباني، توفيق صايغ، أدونيس، فؤاد رفقة، نذير العظمة، محمد الماغوط، كمال خير بك، محمود السيد، سنية صالح، نزيه ابو عفش، عادل محمود، بندر عبد الحميد، منذر مصري، سليم بركات، رياض الصالح الحسين، نوري الجراح، عبد اللطيف خطاب، محمد فؤاد، حسين بن حمزة، عمر قدور، لقمان ديركي، صالح دياب.
إذاً إننا أمام سبعة وعشرين شاعراً، مثلوا جميع الأجيال والتيارات والاتجاهات والأنماط التي حفلت بها خريطة الشعر في سوريا. إنها نخبة مبدعة، ونحن حقاً أمام بانوراما استاتيكية متباينة الرؤى والأخيلة والسبل التعبيرية المفارقة والمتنوعة، وأمام عمارة لغوية متعددة الطبقات، وقدام برج من الاستعارات المائزة، وشبكة متشعبة من الصور البليغة، وحقول من الدلالات اللامعة.
ومن الجيل الأحدث الذي وسم الحداثة بالتقدم الفني والانزياح الجمالي والشاعرية اللافتة يقول لقمان ديركي في قصيدة «طاولات باردة»:
«المرأة الصغيرة، التي تشجارنا من أجلها طويلاً، ولكم بعضنا الآخر، حتى سالت الدماء من أنوفنا، المرأة التي نمنا في شارع بيتها مراراً، ونحن ننتظر إطلالتها الصباحية، المرأة الصغيرة .. ذاتها بعد عشرة أعوام مرَّتْ من جانبنا ولم ننتبه».
بينما رفيقه الشاعر المُغيَّب باكراً والمؤثر في طريقة حياته ونسقه الشعري، الشاعر رياض الصالح الحسين، فيقول في قصيدة
«دائماً»:
«أنا الهواءُ في رئتيكِ، والأزرار في قميصكِ، أينما كنت ستجدينني، براحتيَّ الدافئتين، وقامتي القصيرة، أنتظرك على الرصيف، أنتظرك في العمل، أنتظرك في السرير، واثقاً بأنك ستأتينَ لأنني معك دائماً، أخلطُ أيامَكِ ودمكِ بالأزهار».
وكذلك هو منذر المصري الميال إلى التفصيل والمشاهدة العيانية، يقول في قصيدة له في المختارات: «يحبُّ أمريكا وخاصة هوليوود التي أخذ فيها صورة، بجانب مارلين مونرو من الورق المقوّى».
وها هو ذا بندر عبد الحميد الشاعر الهامس في قصيدة «زهرة مصياف» يقول:
«التقيت برجل، في يديه سلة عنب، وفي وجهه حكمة من الحياة، تحدثنا عن الزراعة، والحب وتاريخ القرامطة، وموسم التبن، قال إن حياتنا فارغة هذه الأيام، كنا نشرب القهوة، ونلف الدخان بعد منتصف الليل في فندق زهرة مصياف».
مآخذ الأنطولوجيات
كل أنطولوجيا عربية تُعَد وتُقدم بين فترة وأخرى، وهي تضم بين صفحاتها العديد من الشعراء، لا بد أن تغفل بعض الشعراء، أو تفضل آخرين عليهم، وحين يقدم مُعد الأنطولوجيا ومترجمها إلى اللغات العالمية الأخرى منجزه، فهو هنا لا بدَّ وأنْ ينكص في هذا المحل أو ذاك، أو يقع دون شك فريسة ذائقته الجمالية، تلك التي تستوعب أحداً، وتستثني أحداً آخر، والمعد غالباً ما يكون طريدة لسهام النقد والتأويل، فتراه يحاول قدر الإمكان ألا يظلم أحداً، أو يهمل آخر، نتيجة شغف ذائقته بأحد الشعراء.
مما نأخذه نحن على الشاعر والمترجم صالح دياب، معد الأنطولوجيا ومنتخبها حسب ذائقته الفنية، أنه امتثل حقاً لهذه الذائقة، فبانت بعض المآخذ التي وقع فيها مثل أي معد لأنطولوجيا ما، من أهمها ميله إلى الشعراء المولودين في سوريا، وأدراجهم ضمن سياق الأنطولوجيا، مثل الشاعرين يوسف الخال وتوفيق صايغ، اللذين ظهرا في أكثر من أنطولوجيا شعرية لبنانية، لا بل توفيق صايغ صار يُنتخب أيضاً لأنطولوجيات فلسطينية، وهنا سيحرم المترجم ومعد الأنطولوجيا شعراء وازنين، من الانضمام إلى الأنطولوجيا، مثل الشعراء المعروفين، علي الجندي وممدوح عدوان، وفايز خضُّور، وهم من أبرز الأصوات الستينية في الشعر السوري.
وكذلك ثمة غياب لشوقي بغدادي ومحمد عمران، وهما من أصوات الخمسينيات، فكمال خير بك ونذير العظمة محسوبان على الحزب القومي السوري، وكان من الممكن أن يقابلهما الشاعران المحسوبان على اليسار، شوقي بغدادي ومحمد عمران.
أما المأخذ الآخر فثمة غياب للنساء الشواعر، ما عدا سنية صالح التي مثلها المترجم بصفحتين من الكتاب، بينما غاب العديد من الشاعرات السوريات عن الأنطولوجيا، وكذلك بعض الأصوات الشعرية الشابة.
كان من الممكن تلافي هذا المأخذ بتقليل صفحات كل من أدونيس الذي بات في فرنسا لكثرة ترجماته كأنه فرنسي، وتقليل صفحات كل من المترجم والمُعد نفسه، وكذلك تقليل صفحات نزيه أبو عفش ونزار قباني ومحمود السيد وأورخان مَيَسَّر وكمال خير بك، وملئها بالشاعرات والشعراء الغائبين.
صالح دياب: «الشعر السوري المعاصر»
لو كاستور أسترال، باريس 2018
صفحة 366.
القدس العربي