أنطونيو ماتشّادو و’ماكنة الشّعر’ العقول الإلكترونية داعبت خيال الشّعراء منذ العشرينيّات من القرن المنصرم
غرناطة- من محمّد محمّد الخطّابي: في الثاني والعشرين من شهر شباط/فبراير الجاري 2013 تحلّ الذكرى الرابعة والسبعون لرحيل الشّاعر الأندلسي الكبير أنطونيو ماتشادوالمتوفّى عام 1939والذي كان قد ولد في مدينة إشبيلية عام 1875، لقد سبق هذا الشّاعر الإشبيلي العقول الإلكترونية المنتشرة بيننا اليوم بشكل مذهل باختراعه عام 1925 بواسطة إحدى شخصيّاته الخيالية ‘ماكنة لكتابة الشعر’.
وهناك مقال طريف للكاتب المكسيكي ‘مانويل دوران’ حول أنطونيو ماتشادو يشير فيه أنّ هذا الشّاعرالذائع الصّيت قد سبق عصره، وبذّ زمانه فقد تنبّأ ماتشادو بإختراعه العجيب هذا بما نراه اليوم من استعمالات عصرية واسعة للحواسيب، أو العقول الالكترونية، والآلات المتطوّرة التي تختزن كلّ ألوان العلوم والمعارف الإنسانية بما في ذلك الشعر!.
كان أوسكار وايلد يقول حسب نظرية أرسطوطاليس القديمة: ‘أنّ الفنّ ليس هو الذي يقلد الطبيعة’. ويقدّم الكاتب مانويل دوران دليلا على ذلك بتخيّل أنطونيو ماتشادو أو إختراعه لماكنة تكتب الشّعر، وهو يشرح لنا كيف تعمل هذه الماكنة وكيف تكتب الشّعر في أسلوب مرح سلس وجذاب،إلاّ أنّ هذه الماكنة لم يكن لها وجود سوى في عقل الشّاعر ،والقصائد التي ينسبها ماتشادو لماكنته كتبها ماتشادو بنفسه، ومثل هذا الشّاعر الكبير لم يكن في حاجة في الواقع إلى أيّ آلة أو ماكنة لكتابة الشّعر، وهذه الفكرة في حدّ ذاتها ووصف الشّاعر لهذه الماكنة قد غدا أمرا شبيها بالتكهّن أو استقراء المستقبل.
الخيال يغدو حقيقة
‘ماكنة الطروبار’ (*) أو النّظم التي تخيّلها ماتشادو في وقت مبكّر قد أصبحت حقيقة ماثلة أمامنا اليوم. وهكذا يستدلّ الكاتب ‘دوران’ أنّ التكنولوجيا والتقدّم التقني إنما عملا على تقليد الفنّ، فنّ ماتشادو في هذه الحالة، وقدّم لنا هذا التطوّر التكنولوجي بالفعل ماكنة لكتابة الشّعر، هذه المرّة ليس من باب السّخرية أو الدعابة أو الخيال كما فعل ماتشادو بل إنه أمر واقعي ملموس.
كان أنطونيو ماتشادو في الفترة المتراوحة بين (1928ـ 1930) يشعر بإنجذاب كبير نحو كتابة الدّراسات، خاصّة الدّراسات الفلسفية، إلاّ أنّه على الرّغم من تقدّمه في هذا المجال فإنّه ظلّ لصيقا مخلصا لجيله الأدبي، وكان ماتشادو يقترب من الفلسفة كمن يدنو من أرض ملغومة، فقد أصغى إلى ‘برغسون’ في كوليج دي فرانس، وقرأ ‘كانت’ وفلاسفة آخرين كلاسيكيّين، إلاّ أنّه مع ذلك ظلّ بعيدا عن متاهات الفلسفة، وتعقيداتها العويصة ،وبدل الخوض في هذا السّبيل عمد ماتشادو إلى خلق ‘لعبة معقّدة’ جديرة بأن تشكّل عنصرا مهمّا من عناصر قصص خورخي لويس بورخيس، بل إنّه قد سبق القصص البورخية نفسها، ولمواجهة هذه المسائل الفلسفية من منظور أدبي أو شعري بحث أو فكّر في خلق ماتشادو، ماتشادو آخرإلاّ أنّه أطلق على هذا الآخرإسم ‘أبيل مارتين’، وهذا الشّخص الثاني يخلق بدوره شخصا آخر ينحدرأو ينسلخ عنه وهو ‘خوان دي مايرنيا (صوت الشاعر) ولهذا الأخير صديق وهو’ خورخي منيسيس’ الذي بعد عدّة سنوات من الكدّ والتعب والتأمّل أمكنه إختراع آلة أطلق عليها إسم ‘ماكنة الطروبار’ وهي في شكل ‘روبوت’ بإمكانها كتابة الشّعر، لم تتوقف اللّعبة عند هذا الحدّ، بل إنّ ماتشادو قد لجأ إلى خلق إثنى عشر شخصا آخرين ظلّوا حبيسي خيال الشّاعر وأوراقه. هؤلاء الأشخاص هم المكلّفون بكتابة الشعر الذي يمليه ماتشادو عليهم، ولكلّ واحد من هؤلاء شخصية معيّنة محدّدة لها مكان وزمان الولادة الخاصّة بهم. لعبة ماتشادو لها جانب آخر جدّي فهو بواسطة شخصيّة ‘خوان دي مايرنيا’ الآنف الذكر(صوت شيطانه الشعري) يرى العالم ويتأمّل فلسفته، والشّعرعنده هو بذرة الحياة ،وينبوعها الأوّل والكلمة الأساسيّة في الزّمن.
الوجود والعدم
الوجود والعدم يشكّلان مشكلة فلسفيّة، ويشكّل الزّمن هو الآخر في آن واحد تجربة إنسانية ووجودية وتجربة فلسفية أيضا، وهكذا يتطلّب من ‘مايرنيا’ تأمّل مشاكل العالم والوجود والعدم والشعر والأدب والعلم والمعرفة، في حين أننا نجد ‘مينسيس’ (مخترع ماكنة الشعر) الذي يقوم بدور الناقد الأدبي والإجتماعي وهو يفسّر لنا أنّ الشّعر هو ليس بالأمر الهيّن أو السهل، بل إنّه مسؤولية صعبة وعسيرة، ويشرح لنا كيف أنّ الشّعرفي عالم اليوم يعيش أزمة حقيقية نظرا لبعد الشّعراء ونأيهم عن مشاكل الحياة والمجتمع، وعن الحقيقة وانغماسهم في فرديتهم وفي مشاكلهم الخاصّة.
ويعتقد منيسيس (ومعه ماتشادو) أنّ الشّاعر اليوم فقد صلته بالجماهير والجموع والقرّاء وينبغي تجاوز هذه الأزمة، وعليه فإنّ ‘ماكنة الطروبار’ أو ماكنة الشعر سوف تسهم في حلّ هذه الأزمة، وهذه الماكنة هي جهاز حسّاس بإمكانه تسجيل، بشكل موضوعي، الوضع الإنفعالي والعاطفي لجماعة من الناس، مثلما يسجّل تيرموميتر درجة الحرارة أو الضّغط الجوي !.
لا يخبرنا الشّاعر ماتشادو متى وكيف وأين تمّ برمجة هذه الماكنة،إلّا أنّ الأشعار والكلمات التي تنتجها هي شبيهة وتضاهي إلى حدّ بعيد الأشعار والأغاني الأندلسية. يصف ماتشادو ماكنته الشّعرية بأنّها ماكنة ديموقراطية وشعبية وهي بمقدورها تسجيل حالات إنفعالية بشرية قد تستعصي على الشّخص العادي، وهذه الماكنة يمكنها أن تشغل وتلهي الجموع والجماهير، بل والتعبير عن مشاغلها وتطلّعاتها لحين ظهور شعراء جدد ذوي مقدرة حقيقية على قرض الشعر. إنّ ماتشادو عندما يصف ماكنته بأنّها ‘ديموقراطيو وشعبية’ فإنّه لا يقصد من قريب أو بعيد النظريات الروسيّة الستالينية في هذا القبيل، ففي المدّة المتراوحة بين عام (1928ـ 1930) لم تكن هذه قد ظهرت بشكل واضح، كلّ ما في الأمر أنّ الشّعر الإسباني في هذه الفترة كان يمرّ بمرحلة خاصّة من التشكّك والبحث عن الذّات، ويفسر ذلك الإبداعات ألشعرية لبابلونيرودا في تشيلي، ورفائيل ألبرتي وفيدركو غارسيا لوركا في إسبانيا.
الشّعر والسّياسة
إنّ ماتشادو عندما إخترع ماكنته الشعرية إنما كان يتوق إلى إيجاد لغة شعبية سهلة ومبسّطة بعيدة عن الغموض قريبة من لاوعي الشعب ومن التيّارات السوريالية التي كانت منتشرة في ذلك الوقت، بل إنّ الماكنة قد حقّقت غاية سوريالية واضحة وهي أنّ الشعر ينبغي أن يكتب من طرف الجميع وليس من طرف شخص واحد.
إلاّ أنّ أكبر مفاجأة تباغتنا بها هذه الماكنة الشعرية هي أنّ هذه الآلة العصرية المتطوّرة تقدّم لنا في الأخيرنتاجا شعريا غيرعصري، بل إنّه نتاج تقليدي وشعبي أصيل.ثمّ إنّ هذه الماكنة تتماشى وتساير التطوّر الذي يعرفه الشّعرحيث كان الشّعراء يلجأون إلى تبسيط وتيسير تنقية أساليبهم نظرا لطغيان السياسة عليهم في ذلك الوقت مثلما هوعليه الشأن بالنسبة لنيرودا وألبرتي.
وهذا الإتّجاه لتبسيط الشّعر هو الذي سيسود بالفعل بعد الحرب الأهلية الإسبانية بالخصوص لدى بعض الشّعراء منهم ‘غابرييل سيلايا’ و’بلاس دي أوتيرو’ إلاّ أنّ أشعار هذين الشّاعرين وسواهما من الشّعراء لم تدرك مستوى ولا رقّة ولا عذوبة ولا سهولة أشعار ماكنة ماتشادو، فضلا عن ميزتها الجماعية وصفتها الغنائيّة. إنّ الماكنة أو الأسطوانة الحقيقية أو الأقراص المدمجة الموجودة اليوم تفوق ماكنة ماتشادو فقط بكونها موجودة بالفعل بخلاف ماكنة الشّاعرالأندلسي التي لم يكن لها وجود سوى في مخيلته، وإنّ ‘ماكنات’ اليوم على الرّغم من رونقها وجمالها وتطوّرها فهي جامدة تكرّر أشعارا ركيكة مسجّلة، في حين كانت ماكنة ماتشادو تنبض بالحياة والإبداع المتجدّد والعطاء المتدفّق العميق . ماكنة ماتشادو حتّى وإن لم يكن لها وجود فعلي في الواقع فهي تعكس أعمق المشاعر الإنسانية، وأرقّها وأعذبها وأنبلها .إنّها مرآة ذات وجهين وجه مرح وتفاؤلي، ووجه آخر حزين وتشاؤمي.
نماذج من شعر ماتشادو**
يقول ‘ماتشادو’ عن نهر ‘الوادي الكبير’ الذي يشقّ الأراضي الأندلسيّة، والذي ما زال يحمل إسمه العربي القديم حتّى اليوم:
الوادي الكبير
ألم تر سلسلة جبال كاسورلا
حيث يولد الوادي الكبير
بين الحجارة قطرة، قطرة
هكذا تتولّد أغنية
مثل هذا النّهر
المنساب نحو قرطبة
ثمّ صوب إشبيلية
وأخيرا يضيع في اليمّ
الزاخر العميق.
في رثاء شاعر صديق
آه، نعم، إحملوا يا أصدقائي
جثمانه إلى الآكام
إلى الجبال الزرقاء
إلى سهل ‘وادي الرّحمة’
بين الوهاد المنخفضة
وأشجار الصّنوبر الخضراء
وغناء الريّاح
ليرتاح قلبه
تحت شجرة بلّوط عتيقة
في أرض
تلهو فيها
فراشات مذهّبة.
من قصيدته الدّفلى
أنا مثل هؤلاء القوم
الذين إلى أرضي
قدموا،
أنا من أرومة محتد
العرب الأقحاح
أصدقاء الشمس
منذ أقدم العهود،
الذين ظفروا بكلّ شيء
والذين خسروا كلّ شيء
لي روح من سنبل الطّيب
روح العربيّ الإسبانيّ .
(*) الإسم الذي إختاره الشاعر أنطونيو ماتشادولماكنته الشعرية التي تخيّلها هو’ماكنة الطروبار’، لاشكّ أنّه مستوحى من مصطلح ‘الطربادور’ فقد إشتهرت في أوربا فرق كانت تهيم على نفسها وهي تؤدّي نغمات موسيقية وشعرية وهي فرق الطروبادور التي يرجع أصلها إلى اللغة العربية وهي فرق (دور الطرب) التي كانت تجول في إسبانيا وفرنسا في القرن العاشر. ويؤكّد المستشرق ‘كليمان هوارث’ أنّ عرب الأندلس كانوا أساتذة الطروبادور في فنون القوافي والأوزان الشعرية، ويرجع الفضل للموسيقييّن العرب في الأندلس في نقل الأسلوب العربي في الوزن الشعري والإيقاع الموسيقي إلى أوروبا عبر جنوب شرق فرنسا من خلال أغاني الشّعراء المتجوّلين (الطروبادور) لتغيير أسلوب الشّعر والموسيقى الأوروبية إلى أسلوب عصري متطوّر.
** من ترجمة كاتب هذه السطور عن الإسبانية
القدس العربي