أهذه هي الحياة؟/ رشا رستم
كانت يداها تطيران أمامها في الفضاء، ويصعب عليها اللحاق بهما. وتركض. صار جسدها على الأرض. وصوت خفيف لبقية من أوراق يابسة، دق مسامعها. وهمد الجسد الراكض خلف ضوء الليل وارتخت يداها على الرصيف.
فأخبروها بأنها صارت جثة. وهي منذ برهة كانت ترتشف القهوة على الشرفة تراقب الحياة. إستغربت، لكن صدقت. وأحست بجسدها يعلو عن الأرض. وأكفٌّ كثيرة تحمله. وتجول به شوارع المدينة. تهوى المدن بكل ما فيها من تناقضات.
خلقت بها إمرأة تلوح بالشغف لصيرورة ما. وهي التي كبرت بين الأشجار والينابيع. ورائحة ثيابها زيتون وبنفسج.
يجولون ويجولون. والمارة لا يعيرون أهمية لهذه الجثة، يركضون خلف اللحظات مسرعين، فرحين، تائهين، خانعين، خائفين، متوترين.
تبتسم، فقلبها ما زال فيه حب مكبوت لشابٍ ما صار لإمرأة أخرى. هي أحبت كل الفصول لم تكن تفضل فصلاً على آخر. أحبت كل الشهور. أحبت أطفالاً ملطخي الوجوه بأوجاع زمن لا يرحم البشر. تتذكر طفلة، جسدها موشوم بعنف ما. وترسم الحياة على جدران إسمنتية. تبتسم، كيف كانت الطفلة تجسد الحياة على شكل زهرات ثلاث لا أكثر، في مزهرية متروكة على حافة حجرية.
هذه هي الحياة أم انها في هذا الرسم تفرغ وجعها وتسكت. تلمح وجوهاً كثيرة كانت تكرهها، ربما لأنها مختلفة عنهم، وكانت تنبذها لتخلو في مساحة تكاد تسعها. أحست بأمواج البحر تطرق جسدها. يؤلمها الموج. وهي أمضت عمرًا قبالته. تتعرى أمامه وتغسل روحها به وتستحم بزبدته، حرة، فرحة. بردت أناملها لم تعد تحسها وكأنها هربت إلى جذع شجرة الحور.
الحور حين يمتزج بصوت الماء كان يلفها بسكينة غريبة لا تطيق الخروج منها. تذكرت أنامل تلك العجوز التي أمسكت يدها، ومعًا أمسكا المظلة، وتحت المطر إبتسمتا وتنشقتا رائحة التراب. كانت تهوى الناس والحكايات. غابت العجوز. إنفطر قلبها وبقي المطر في عينيها يتدفق كلما إرتجفت شوقًا لوجوه تطمئن قلبها. رأت حلمها متروكاً على مقعد خشبي صار يتيمًا من بعدها. يندب حظه على رحيلها، لم يعد في الإمكان أن يكون حقيقة. كانت قوية تركض خلف الضوء ولا تتعب. وتعلم بأن غدًا يوم آخر، يوم أكثر سلامًا مما مضى. الجسد صار جثة. وقدماها ما زالتا ترقصان على أرصفة المدن تحت ضوء شمس لا تغيب. الجسد صار جثة. الرصاصة، الشظية. دخلت الجسد. وتحررت الروح. لوكانت أسرع لأخبرت القاتل بأنها تهوى الحياة. وبأن عمرها صغير على الموت.
لكن الموت أعند من أن يفكر في عمر الجسد. تخبره بأن أمها تنتظرها على مفترق الطريق لتحضر لها خبزًا وملحًا. بأن جسدها يؤلمه الموت. يتأوه، يتوجع، يبكي. غدًا مع الشمس، ستلتقي صديقتها لتسيرا على الكورنيش معًا، وتغزلا اللحظات. بأن في بالها عشرات الأحلام لأيام ستأتي. وبأن على شرفة غرفتها زهرة ياسمين. ستموت من بعدها. فلا أحد يهتم بها. الساعة السابعة صباحًا. رن المنبه. استيقظت دامعة العينين. إنه حلم. الرصاصة، الشظية، الموت. حلم، حلم، حلم، رددتها عشرات المرات. بكت حرقة ً على مئات الأرواح التي تستحق الحياة. جسدها يرتجف. خيط شمس هرب وارتمى على سريرها. إبتسمت وقالت: غدًا يوم آخر. وأسرعت وحملت ماءً وسقت زهرة الياسمين. متألمة، مبتسمة.