“أهلاً بكم في الجحيم”/ ريبر يوسف
لم تكن الاحتجاجات والمظاهرات في مدينة هامبورغ الألمانية اعتباطية البتة، أي، بما معناه، لم تكن حالة تعبيرية سطحية وطارئة كأحدِ أدوات مناهضة قمة العشرين، خلال الفيديوهات الكثيرة التي نقلت بتفصيل تلك الأحداث تبيّن أنَّ الغالبية العظمى من المتظاهرين كانوا من فئة الشباب. الأمر الذي يطرح التساؤل في وجه العملية التراتبية لنشوء الحكومات في كافة الدول الأوروبية.
الشباب يعني الخروج عن شكل النظام العالمي الحديث، الذي يحكمه رأس المال المتمثل بأميركا وسياساتها ليس فقط في الشرق، بل، حتى في عمق الحياة الاجتماعية الأوروبية. إذاً، لم تكن أبداً متشابهة وجميع المظاهرات في العالم، حيث أخذت طابعاً أممياً بِتبنِّيها قضايا كامنة خارج سياسة الدولة الواحدة. خروج الشباب له رمزية متينة منتمية إلى فكرة مناهضة النظام العالمي الذي أوجده بطريقة ما أجدادهم المنتمون إلى لبّ ذاك النظام. بكل الأحوال، لم تكن مجموعة مظاهرات كالتي تنَظَّم عادة في ألمانيا منطلقة من قضايا داخلية صغيرة وكبيرة، من أزمة اللجوء إلى السكن وغيرها.
لماذا يمكن أن تكون هذه المظاهرات “بروفة” لمظاهرات عالمية قادمة يوماً ما لتغيير النظام العالمي الحديث؟
التراتبية التي عاشت فيها الفئة العمرية المتقدمة في السن داخل أوروبا، حالتها النفسية إبان الخروج من الحرب العالمية الثانية ومن ثم الاحتلالات وقضايا داخلية وإعادة الإعمار، كلها كانت بمثابة توليد القناعة لدى الفرد الأوروبي عموماً والألماني على وجه الخصوص، تلك الأحداث وضعت نظاماً صارماً لدى المواطن الألماني الكلاسيكي، ما جعل اختراقه أمراً مستحيلاً، أي، لا يمكن التعويل عليها في رفض وانتقاد النظام العالمي الحديث أبداً.
فكرة الشباب في المجتمع الألماني غير منتمية إلى النظرة العامة كالشرقية مثلاً تجاه الشباب، أي، النظر أنها فئة مليئة بالحيوية والنشاط وغيرها، لم تثمر أبداً تلك النظرة بما هو إنساني على الإطلاق، الأمثلة متعددة لمجموعة شباب كانوا ضمن النواة الرئيسة للكثير من الحكومات، لكنهم لم ينجزوا سوى المجازر، كأولاد كافة أركان النظام السوري والمصري والليبي واليمني واللبناني وغيرها، إذاً فكرة بقاء المرء ضمن نظرة أسرته وعشيرته وقوميته ودينه يخلق من المرء نسخة مستنسخة تماماً من أجداده، الأمر الذي يولد مجتمعاً مهزوزاً غير قادر على تحمّل فكرة رفض أي حدث يظّاهر من المجتمع الجمعي الموثوق برجل واحد عادة، هو أما الرئيس أو شيخ العشيرة أو مختار أو حتى مدير مدرسة ابتدائية.
من هذا المنظور، يمكن القول بأنّ رمزية خروج الشباب في مدينة هامبورغ لا تضاهيها رمزية على الإطلاق، خروج الشباب من دولة بيروقراطية تهتم بأصغر التفاصيل، صارمة ومنضبطة سيّارة عبر برنامج متين، تأتي أهمية الرمزية تلك أيضاً في معادلة ذات أهمية عالية، سوى أن الجيل الحديث في ألمانيا هو جيل منفتح على العالم وقضاياه بكافة تفاصيله، كان جذر هذا الانفتاح موثوق بالسنوات الأولى لهؤلاء الشباب في المدارس وروضات الأطفال التي هي مجموعة مختلطة من أطفال ينتمون لجنسيات وقوميات وديانات العالم، عملية الحوار وبناء الذاكرة في تلك المرحلة العمرية المبكرة لمجتمع حديث جعلته يرى نفسه عن طريق قضايا الآخرين وليس من قضايا أجدادهم الصغيرة الداخلية المنتمية إلى فكرة “ألمانيا أولاً وقضايانا أولاً”.
يمكن استنتاج انفتاح الشباب الألماني على العالم في مجموعة من الأحداث، هو اندماجهم مع اللاجئين ومأكلهم ومشربهم وثقافتهم، غالبية الشباب الألمان الذين التقيتهم في ألمانيا كسروا إتيكيت أجدادهم وتعاطوا مع الآخرين بطريقة غاية في الأهمية. قلما تلتقي بشاب أو فتاة ألمانية لا يكونان داعمين للثورات في الشرق، لا يأكلون الفلافل ولا يسمعون المطرب الشعبي والعالمي السوري ابن مدينة الحسكة التي كانت تعتبر مدينة نامية حسب خطاب النظام السوري وهو (عمر سليمان).
نحن أمام جيل صارم في حبه لقضايا الآخرين، صارم في تفكيك تاريخ بلده لبناء ذاكرة مستقبلية منتمية إلى كافة شعوب العالم.
إذاً، خروج مظاهرات مدينة هامبورغ كان بمثابة الخروج عن العقل الذي صنع نظام بلدان العالم بما تحمله رمزية الشباب في تلك المظاهرات التي ستغيّر بشكل أو بآخر النظام العالمي لا محال، نحن أمام جيل لا يضع مشترياته في أكياس البلاستيك، يزرع النباتات ويمارس اليوغا وليس مهماً له إن نام تحت الجسور طوال حياته، الانفتاح على قضايا الآخرين الإنسانية أكسبهم طاقة روحية غاية في الأهمية، إذاً، لم يك العرض التمثيلي الذي قام بأدائه حوالي ألف شخص اعتباطياً، بل، هو رمز تحوّل العالم في المستقبل القريب، بل، إعلان ثورة مستقبلية، خروج ألف شخص في هيئة أموات ساروا في شوارع مدينة هامبورغ بحركات بطيئة كما لو أن العرض يتحدث عن المجتمع الألماني الذي صنعت الرأسمالية العالمية منه جثة لا ترى ولا تسمع بل تعمل فقط. انطلقت فكرة العرض من حالة فتح الفم للصراخ والعين لتبصر، إذ مرروا أياديهم على وجوههم وهمُّوا بالصراخ ومن ثم نزع الثياب التي ترمز للموت عنهم لتظهر ثيابهم الملونة تحتها فرقصوا وركضوا معاً وانتشروا في مدينة هامبورغ، تلك الحركة المنتمية إلى سياق معرفي حوّلت رؤية المتلقي إلى وجوب كسر النظام الذي فتك بالذات البشرية.
أشكال التعبير وإيقاع وشكل الشعارات وموسيقاها داخل المظاهرات، أخذت شكل وموسيقى المتظاهرين في سورية وغيرها. لوهلةٍ، شعرت كأني أرى وأسمع متظاهرين سوريين يهتفون للمدن السورية.
* “أهلاً بكم في الجحيم” هو الشعار الرئيس لمظاهرات مدينة هامبورغ.
فة ثالثة