أهلنا في فلسطين، اليرموك بخير،
(طمئنونا عنكم)
سليم البيك
كنت في بداية دراستي الجامعية حين اندلعت الانتفاضة الثانية، وكان الاتحاد العام لطلبة فلسطين في حمص وسوريا كلها في حالة إعادة التأسيس، كأن الانتفاضة عجّلت من ذلك. خلال سنوات الانتفاضة وما بعدها -ولا ندري تحديداً متى وكيف توقفت- شهدتُ لا الأنشطة الجماهيرية في المخيم حيث عشت والطلابية في الجامعة حيث درست، تلك التي قد تسبب نوعاً من «فشّة الخلق»، بل شهدتُ الحنق والقهر المكظومين في صدر كل فرد في المخيم، وبين أعضاء الاتحاد، وهو ما يفوق الأنشطة العلنية في صدقيتها لوجدانيتها وحميميتها وذاتيتها عند كل فرد. وهذا رد فعل طبيعي لجزء من شعب يرى جزءاً آخر منه يُقتل ويُعتقل في الضفة الغربية وقطاع غزة، وتحُول الجغرافيا والسياسة والدنيا كلها بينه وبين مشاركة أهله بعض مآسيهم ومقاومتهم.
كان ذلك قبل ١٢ سنة، أذكر كل ذلك لآتي به إلى أيامنا هذه، حيث يُقتل ويُعتقل ويُقصف الفلسطيني كما السوري على أيدي وأسلحة جنود النظام السوري وشبيحته، والفلسطيني الذي أقصده هنا هو ابن مخيمات سوريا، الذي عاش -شأن الفلسطيني في المخيمات خارج الوطن- لاجئاً في بلد ليست بلده، يتناقل روايات النكبة بين أجياله، يَثقل حنينه لوطنه سنة بعد أخرى، يتحمل ذل وقمع وعنصرية وأحياناً مجازر الأنظمة «المضيفة»: لبنان والأردن وسوريا، سوريا حيث للفلسطيني الحقوق المدنية التي «يتمتع» بها السوري، صحيح، لكن أي «حقوق» «مدنية» تلك التي «يتمتع» بها «المواطن» السوري أساساً! المهم..
أتكلم عن الفلسطيني في مخيمات سوريا الآن تحديداً وقد توحدت مآسيه مع مآسي أشقائه السوريين، الشعبان عاشا عقوداً في ظل دكتاتورية شمولية استحالت الجهاز القمعي الأشد دموية وهمجية في التاريخ المعاصر على أقل تقدير، عن الفلسطيني الذي يُقتل في مخيمات سوريا بالجملة، الذي يبحث عن أشقائه في الضفة الأخرى من العالم (كأن فلسطين حقاً عالماً آخر) يبحث عن أهله هناك، عن مظاهرات تخرج منددة -إن لم نقل بقتل السوري والفلسطيني معاً- بقتل أبناء قراهم، من كانوا جيرانهم يوماً ما على أرض فلسطين، ذلك الشعور التوأمي البديهي لأبناء أي قرية أو مدينة إذ تقع مصيبة في أحدهم فيفزع الآخر، ذلك ما حاول الجرحى والمصابون والمعتقلون وذووا الشهداء البحث عنه في ركام اليرموك وغباره أبنيته وروائح البارود والدماء فيه.
ما كنت لأكتب الفكرة التي جالت في رأسي منذ سنة وأكثر، كنت أدفعها وأرفضها وأكذّبها (بدأت بكتابتها غير مرة ثم ألغيتها)، لولا أني قرأت على صفحة «فيسبوك» لأحد يكتب من مخيم اليرموك تحت القصف يسأل بسخرية سوداء مجبولة بالألم والرعب إن سمع أحد عن مظاهرات خرجت في فلسطين. يبحث عن أي شكل من أشكال تضامنهم معه. لا يريد، مثلي، أن يصدق لامبالاتهم تجاهه.
لن أكتب عن الموقف المخجل لكثير من الشباب في الضفة وغزة وأرض الـ ٤٨ من الثورة السورية، والتنظيمات الصدئة (بدءاً بيسارها) تتحمل مسؤولية ذلك، لن أكتب عن اللامبالاة المخزية من ناحية والمؤلمة من ناحية أخرى تجاه الدماء السورية التي تسيل في سبيل ثورة شعبها وحريته، فلنترك حقيقة أن كذبة الممانعة «مَشَتْ عليهم» وصدّقوها وهم على الضفة الأخرى من هذا العالم، على خلاف الفلسطينيين في المخيمات خارج الوطن وفي سوريا تحديداً، من عاشوا ويعيشون كذبة الممانعة يومياً. سنترك كل ذلك جانباً (يعز علي أن لا أسألهم عن الدم السوري المسال، هل أحتاج أن أذكّر بأنها الدماء التي سالت غزيراً مضحيةً لقضية فلسطين؟ يبدو ذلك وذاكرة أولئك الشباب قصيرة ووعيهم للنظام السوري تاريخياً وحالياً قاصر؟) سأترك كل ذلك لأسأل فقط عن قصف اليرموك ومخيمات فلسطينية أخرى، وإفلات الشبيحة المسعورة على أهله، سأسأل إن كان لدى أشقائنا في فلسطين أهل وأقارب وأصدقاء ومعارف هناك يودّون الاطمئنان عليهم لا أكثر، سأسألهم عمّن استشهد في القصف الأخير على اليرموك، من لم يترك فرصة للوقوف مع أهله في الضفة وغزة والـ ٤٨ إلا واختلقها واستنفدها عن بكرة أبيها، باطنياً وظاهرياً. (لم أتخيل يوماً أني سأكتب ذلك) سأسأل عن فكرة الدم الفلسطيني الواحد، عن الشعب الواحد، عن العائلة الواحدة، عن الثورة الواحدة التي أطلقها أبناء المخيمات، عن غسان كنفاني وناجي العلي صاحبا التأثير الأكبر في تكوين وعي الشباب في فلسطين، وعلى مدى أجيال.
هذا ما لن ألوم التنظيمات عليه، هي مسألة إنسانية ضميرية أخلاقية وطنية بامتياز وأكبر من جميع التنظيمات، وهي مسألة ذاتية تخص كل فرد بعينه. خلال مسار الثورة، وقتل الفلسطيني كما السوري، وتحديداً في القصف الأخير على اليرموك الذي أوقع عشرات الشهداء، لم أسمع بأية مظاهرة في الضفة وغزة والـ ٤٨، ولا بأي شكل لأي فعلٍ تضامني، لأي مشاعر مشتركة، لأي مظاهر حزن أو غضب ولو رياءاً (اكتفى تضامن أهل الضفة أيام الحرب الأخيرة على غزة بمسيرة شموع!). الأنكى أن الشباب على «فيسبوك» و«تويتر» كانوا فعلاً في عالم آخر، حالة لم تسبّبها إسرائيل بل الخيار الشخصي الأناني لكل فرد، كأن ما يجري في سوريا من قتل وقصف للسوريين والفلسطينيين لا يعنيهم، وتتواصل اللامبالاة كلما تكرر القتل والقصف على مدار الثورة. مجازر بالجملة تُرتكب في حق مدنيين فلسطينيين وسوريين وكثير من أهلنا في بلدنا صامتون، وإن تكلم أحدهم يبرّرها بكل صلافة، وهذه مصيبة أخلاقية فلسطينية أخرى.
أي بلادة إنسانية أصابت معظم الشباب هناك؟ أي لامبالاة غير مبررة تعتريهم؟ لا أعرف هي بلادة أم لامبالاة أم موت فعلي. أي عار سيلبسهم ثم أي تبرير سيخرجون به لاحقاً؟ ألم يفكروا يوماً بأنهم سيقفون أمام أهلهم من الفلسطينيين في المخيمات، وأمام السوريين، ليبرروا هذا الموت، الموت في ضمائرهم؟ ليبرروا القتل بممانعة لم يصدّقها غيرهم؟ هل نلاقي من كثير منهم الآن ما لاقوه من كثير من العرب أثناء الانتفاضة؟ الصمت القاتل.
ما كنت لأكتب الفكرة التي جالت في رأسي منذ سنة وأكثر، كنت أدفعها وأرفضها وأكذّبها (بدأت بكتابتها غير مرة ثم ألغيتها)، لولا أني قرأت على صفحة «فيسبوك» لأحد يكتب من مخيم اليرموك تحت القصف يسأل بسخرية سوداء مجبولة بالألم والرعب إن سمع أحد عن مظاهرات خرجت في فلسطين. يبحث عن أي شكل من أشكال تضامنهم معه. لا يريد، مثلي، أن يصدق لامبالاتهم تجاهه.
ليتخيل أحدنا الألم الذي سيسببه سؤال ابن المخيم من تحت القصف لصاحبه. كذلك أسطر هذه المقالة لكاتبها، وقد أظهرت أنها لا تخصّه وحده، وأجبرته على إظهارها، ولو بتمنّع.