أوباما و”لعنة” سوريا/ عمر قدور
لعل أكثر ما يؤرّق أوباما إصراره منذ حملته الانتخابية الأولى على أنه ليس جورج دبليو بوش. فهو لا يفوّت مناسبة لشرح فوائد الانكفاء الأمريكي وعدم التورّط في النزاعات الدولية، مبرزاً بشكل خاص حرصه على أرواح الجنود الأميركان، على العكس من سياسة سلفه الخارجية التي طالما وُصفت بالتهوّر. ويمكن القول بأن هذه الإستراتيجية لقيت تأييداً واسعاً في ولاية أوباما الأولى، زاد منه نجاح بعض العمليات التي اعتمدت فيها الإدارة على طائرات بدون طيار في باكستان وأفغانستان، وقُتل فيها قادة من تنظيم القاعدة بأدنى كلفة، مع التعتيم على العمليات الفاشلة منها، والتي تسبّبت فقط بمقتل مدنيين أفغان أو باكستانيين.
على ذلك، فعل أوباما كل ما في وسعه لينأى عن التورّط في سوريا، ولئلا يكرر تجربة الإدارة السابقة في أفغانستان والعراق. وبالتأكيد لم يتوقع أن تكون لامبالاته إزاء سوريا أهم المآخذ التي ستوجه إليه من قبل سياسيين أميركيين بعضهم كان من أركان إدارته إلى وقت قريب. فإذا كان غزو العراق في عهد بوش الابن مصدر أزمة إدارته فإن سياسة عدم التدخل قد تكون مدخلاً للإجهاز على إدارة أوباما في ما تبقى له من ولايته الثانية، أي أن الإدارة المقبلة ستضطر للانقلاب على السياسة الخارجية الحالية، ديمقراطية كانت أو جمهورية. هذا إذا لم يضطر أوباما نفسه إلى التراجع تحت الضغط، وهو أمر قد يكلفه بمقدار ما يكلفه الإصرار على موقفه الحالي، لأنه سيعني إقراراً بخطأ سياسته السابقة وبخطأ الإصرار عليها طويلاً.
قبل أشهر انتقد السيناتور الجمهوري جون ماكين أداء أوباما بالقول بأن لا وجود لخيارات حسنة في السياسة الخارجية، المفاضلة هي غالباً بين السيئ والأقل سوءاً. حينها كان يمكن تأويل تصريحه ضمن الانقسام التقليدي بين الحزبين الأميركيين، إلا أن هيلاري كلينتون في مذكراتها عن الفترة التي قضتها كوزيرة للخارجية تعيد ما قاله ماكين بالصياغة نفسها تقريباً إذ تقول: “من النادر إيجاد الحل المناسب للمشاكل الشائكة. في حال كانت هذه المشاكل شائكة فلأن كل خيار يتمّ التطرق إليه يبدو أسوأ من الخيار الذي يليه، وهذا ما ظهر في سوريا”. تشير كلينتون إلى أنها كانت مقتنعة منذ البداية بتسليح وتأهيل مقاتلي المعارضة ، مضيفة أن “التحرك وعدم التحرك يتضمنان كلاهما مخاطر عالية، ولكن الرئيس باراك أوباما كان ميالاً إلى إبقاء الأشياء على حالها”. قبلها أيضاً كان روبرت فورد، السفير الأمريكي المشرف لحوالى ثلاث سنوات على الملف السوري، قد وجه انتقادات مباشرة وواضحة لسياسة إدارته، ومثله أيضاً جورج هانا المستشار السابق لنائب الرئيس.
مشكلة سياسة أوباما في سوريا أنها تعيد على نحو مقلوب أخطاء سياسة بوش في العراق. فإذا كانت إدارة الأول قد كذبت في شأن وجود أدلة على امتلاك العراق لأسلحة دمار شامل، فإنّ الإدارة الحالية كذبت في شأن أسلحة النظام السوري الكيماوية. لقد كذبت أولاً في إعلان أن استخدامها هو خط أحمر، وكذبت ثانياً عندما أعلنت حصولها على تعهد روسي بقرار دولي ملزم عندما أبرمت صفقة تسليم الكيماوي، ثم تبين سريعاً رفض الروس لأي قرار ينطوي على التهديد بعقوبات تلقائية. أيضاً كذبت الإدارة في أثناء مناقشات لجنة الخارجية في مجلس الشيوخ على مستويين: الأول هو القول بأن لديها معرفة تامة بمقاتلي المعارضة، وبأن نسبة المتطرفين بينهم لا تتعدى 10%، ثم عادت إثر التراجع عن الضربة فوراً إلى القول بأن المتطرفين يهيمنون على كتائب المعارضة. أما المستوى الثاني المتصل بالأول فهو الحديث عن إستراتيجية متكاملة تتضمن دعم المعارضة، ومن ثم التراجع عن ذلك بموجب صفقة الكيماوي.
لكن أطرف ما يمكن توقعه من الإدارة هو قول الناطقة باسم الخارجية ماري هارف، رداً على انتقادات السفير المستقيل فورد: “إنه مواطن عادي، وله الحق في التعبير عن آرائه”! فهذه الاستهانة برأي من كان مشرفاً إلى وقت قريب على الملف السوري لا يمكن توقعها من دبلوماسية ينبغي أن تصغي بجدية إلى ما يقوله خبراء الإدارة نفسها. هنا نتذكر أن إدارة بوش، عندما ثبت فشل سياستها الخارجية، ساهمت في تشكيل لجنة من أعضاء الكونغرس الديمقراطيين والجمهوريين لتقييم السياسة الخارجية وتقديم مقترحات بديلة، ويُذكر أنها التزمت بالعديد من التوصيات التي خرجت بها آنذاك لجنة بيكر- هاملتون.
بقدر ما حاول التهرب منها، فإن “لعنة” سوريا قد تلاحق أوباما خلال ما تبقى من ولايته، حيث لم يعد يفيده تبرير سياسته بذريعة عدم تعريض حياة الجنود الأميركيين للخطر، إذ بات معلوماً على نطاق واسع أن لا أحد يريد حقاً تدخلاً عسكرياً أميركياً كالذي حدث في أماكن أخرى، ولا أحد يتوسم في إدارته أكثر من رفع الحظر المفروض على توريد أسلحة مناسبة للمعارضة. فضلاً عن ذلك، أثبتت سياسته فشلها على صعيد مكافحة الإرهاب، بعد أن باتت الساحة السورية ملهمة للمقاتلين الغربيين العائدين إلى بلدانهم. ربما يكون أوباما أول من يدفع ثمن “لعنة” سوريا، الأمر الذي لن يكون أبداً مصدر سرور، بل سيكون نذير شؤم، للنظام السوري ولحلف الممانعة.
المدن