أوبرا دمشق : الفصل الأخير في ملهاة الأسد الخماسية
د. نور الله السيّد
فيما كانت السيارات تطوف ظهراً في ساحة الأمويين الدمشقية التي تشرف دار أوبرا دمشق عليها كان خطاب الأسد يُبثُّ عبر وسائل الإعلام السورية. ولكن دار الأوبرا نفسها كانت تبدو فارغة، فلا سيارات في باحتها ولا حركة غير عادية ولا شيء ينم عن أن أمراً ما يجري داخل بناء الأوبرا. إذن فالخطاب الذي كان يُبث كان مسجلاً وما بثّه التلفزيون السوري كان حفل الأوبرا المسجل، ولم يكن بثاً حياً. ضاعت على المشاهدين إذن فرصة حضور الأوبرا أو حتى مشاهدة البث الحي لها! ولما لا، فعروض الأوبرا الشهيرة تحتفظ بطعم خاص يجعل أمر مشاهدتها مرة ومرات أمراً لا يُمل. نعم عروض الأوبرا الشهيرة، فهل كان هذا العرض من العروض الشهيرة؟ سيكون خاصة إذا كان هذا العرض هو العرض الأخير.
وأوبرا الأسد هي دراما مسرحية غنائية من فصل واحد وأغنية واحدة ولكن بتنويعات مختلفة، تشارك فيها مجموعة أصوات من طبقات مختلفة وكورال وفرقة موسيقية وديكور مناسب للدراما. وفي أوبرا الأسد كان صوته هو الصوت الوحيد، يغني بكل الطبقات وبكل الأصوات، المذكرة والمؤنثة، إذ لا يوجد شريك يناسب مقامه في الغناء. والحضور كانوا هم الكورال، اختيروا ممن كانت هذه أولى تجاربهم في الإنشاد، فلم يتعرف أحد إلى أي وجه من الوجوه بينهم، فلا هم من الحزب ولا هم من مجلس الشعب ولا هم من الوزراء أو مسؤولي الدولة. وعلى الأغلب أنهم كانوا من الجيش وشبيحته، فصوتهم أقوى وأمضى، خاصة عندما يتعلق الأمر بأوبرا الأسد الحماسية. أما الفرقة الموسيقية فهذه على العكس كانت مشاركتها حية وليست مسجلة، فمع كل مقطع يغنيه الأسد كانت المدافع وراجمات الصواريخ ومدافع الهاون تشارك في عزف جماعي أبكى من أبكى من دمشق وريفها ومخيمها تأثراً بوقع العزف. وازداد العزف عنفاً بعد انتهاء الأسد من غناء ملحمته المأساويّة. فالملحمة لغةً هي الحرب الشديدة في أحد معانيها بحسب معاجم اللغة العربية.
تضمنت الأوبرا منولوجا عن الألم وعمق معاناة السوريين من قتلتهم أعداء الوطن وليس بفعل ثورتهم، فلا ثورة ولا بطيخ وأن المسألة ليست مسألة الشعب مع النظام وإنما مسألة الوطن مع الأعداء، فالأسد هو الوطن والوطن هو الأسد. جملة غنائية حازت التصفيق المديد لمجرد بدئه بغنائها. وفي تنويعة ثانية حوار بينه وبين الكورال عندما يغني الأسد للشعب ساخراً من الثورة ويجيبه الكورال ‘شبيحة للأبد كرما عيونك يا أسد’.
ثم يتابع الأسد مرثية العقوق، عقوق من لم يًقدّر المكتسبات ولم يُقدّر الإصلاحات حق قدرها لينتفض الكورال صائحاً بصوت واحد مكرراً ‘الأسد أو نحرق البلد’. وفي تنويعة ثالثة يغني للحرب والبطولة والنصر بصوت مؤثر جياش فيجيبه الكورال ‘الأسد أو لا أحد’ على وقع ترنيمات تعيد ذكرى أوبرا كارمينا بورانا وخاصة عندما ترافق الكورال موسيقى المدافع الثقيلة هازة دار الأوبرا، ولكن الأسد لا يخاف فقد ارتدى واقية الرصاص، ويؤكد متابعة الحرب حتى آخر نقطة دم، دم السوريين وليس دمه طبعاً.
ويرفع عقيرته في تنويعة رابعة معلناً على وقع موسيقى سريعة من أوبرا زواج فيغارو لموزارت رغبته بالزواج، ليتابع متباكياً بأن الذنب ليس ذنبه إذا لم يجد من يقبل الزواج به، ويعرب عن استعداده للقيام بكل إجراءات وخطوات الخطبة والزواج وإصلاح نفسه مرات ومرات حتى تقبله في المرة الثانية من لم تقبله في المرة الأولى وأنه سيفعل ذلك مرة ثالثة ورابعة إن لزم الأمر… هنا يخرج إبراهيم القاشوش، الذي كان الأسد اقتلع حنجرته، مردداً من إحدى زوايا القاعة بتقنية البلاي باك ‘يا بشار ويا كذاب تضرب إنت وها الخطاب الحرية صارت ع الباب’، … في القاعة تتردد أغنية القاشوش الأولى…يا بشار مانك منا خود غراضك وارحل عنا يا الله إرحل يابشار… وتردد معظم أرجاء سورية وراء القاشوش ترديداً ملحمياً: يا الله إرحل يا بشار، يا الله إرحل يا بشار، لعل هذا يوقف محنتها. ولكنها تتوقف محبطة، فالرجل لا يريد الرحيل ولا يفكر فيه… ومن الأفق القريب تُسمع صواريخ الراجمات تؤازرها المدافع والدبابات في محاولة لاقتحام داريا التي تنهي اليوم أربعينيتها من الحصار والدك المستمر. وزير الدفاع السوري كعادته كل يوم يخبر زوجته قبل مغادرته البيت أن داريا ستسقط اليوم. ولو علم الأسد بذلك لأضافها إلى مرثيته وغنى أربعينية داريا فهذه كانت ستضيف إلى أوبراه ما لم يستطع الإبراهيمي إنشاده عندما التقاه آخر مرة في دمشق. لذا بعث له الإبراهيمي بتغريدة بعيدة: أربعون سنة فيها الكفاية، ولم يعد في صوتك ما يكفي من العروبات فاترك المسرح لغيرك. وتسدل الستارة بانتظار الفصل الثاني الذي يُعدّ نصه حالياً في مكان ما من هذا العالم. على جدران الأوبرا تعود للظهور ظلال أشباح المعارضة السورية وأصدقاء سورية بأصواتهم الباهتة تصدر استنكارات وتمتم كلاماً لا يزال غير مفهوم، وتستمر الملهاة السورية بكل تفاصيلها العبثية… بالانتظار يموت أطفال في مخيم الزعتري من البرد والجوع بسبب الأمطار والثلوج. وهي أمطار وثلوج وفرت حياة عشرات من السوريين لعدم قدرة الطيران السوري على قصفهم في هذه المرة لم يصدح السوريون بندائهم المألوف ‘يا الله ما إلنا غيرك يا الله’، ربما سئموا الرجاء أيضاً.
‘ استاذ جامعي سوري
القدس العربي