أوديس السوري/ بشرى مدخنة
أوديس السوري يتشابه في ذلك، وإلى حد بعيد، السياسي الأوروبي والسمسار؛ أحدهم يفاوض لتشديد الحماية على الحدود، و الآخر لإجتيازها.
محطة ميلانو الرئيسية في الشمال الإيطالي، كانت وماتزال مسرحاً للتفاوض على أهم صفقات العمر، حيث يتدفق إليها العشرات من العائلات السورية، التي نجحت في عبور بوابة أوروبا الأولى، ممتطية قوارب الموت، أو قادمةً عبر رحلات جوية، بأوراق ثبوتية مزيفة.
في زاوية أحد شوارع المحطة، وتحت نظر كاميرات المراقبة، ومعرفة الجميع، يتفاوض السوريون على آمالهم وأحلامهم ببدايةً جديدة على أرض جديدة. الجميع يحلم بالسويد، بعضهم شبّهها بأرض الميعاد، والكل يريد الوصول إليها.
يصل السوري إلى ميلانو، التي تعتبر آخر حاجز يفصله عن هدفه، السويد أو ألمانيا أو هولندا، وكأنه عدّاء رياضي في سباق للمسافات الطويلة، بعد رحلة هروبه الطويلة من سوريا. بعض السوريين مرّوا في طريقهم إلى هنا، عبر تركيا أو لبنان، ثم إلى مصر وبعدها إلى ليبيا.
في كل مسافة قطعها السوري المهاجر، انتظرته جولة تفاوضية، إبتداءً من مؤجري البيوت في الشتات، مروراً بسائقي السيارات والطائرات والسفن، وانتهاءً بسماسرة أوراق المرور المزيفة وقطاع الطرق الذين ينتظرون حصصهم، ضرائبهم، من عابري صحارى المغرب العربي.
يبحث السوري، بعيونه القلقة، عن سمساره الإيطالي في المحطة، وغالباً ما يحصل على رقمه، من سوريين آخرين، وصلوا بواسطته إلى بر الأمان. يتم التفاوض على قارعة الطريق، بين الهمس والنظرات الحذرة لكلا الطرفين.
تتراوح التعريفة بين 500 إلى 1000 يورو للشخص الواحد، للوصول إلى ألمانيا، وبين 1000 إلى 2000 يورو للسويد. هذا لا يمنع من حالات الاحتيال التي طالت العديد من السوريين، فتُركوا على قارعة الطرق، بعد أن أفرغ المهربون جيوبهم. لا يكسر ذلك عزيمة السوري المهاجر، وهو الهارب من أنياب الحرب، والناجي من أمواج البحر المتوسط، والمتفلت من ذئاب الأرض وسماسرتها. في ميلانو، يصبح السوري قاب قوسين أو أدنى من هدفه؛ استعادة حياته أو ما تبقى منها.
في الشمال الإيطالي، يطلب البعض من الأهل والمعارف، تحويل المال لهم، فلم يتبقَ لهم سوى “عضة كوساية”، ليتابعوا رحلتهم مع سائق التاكسي، بعد استحالة السفر بالقطار، بسبب التشديدات الأمنية في الفترة الأخيرة. لقد تمّ توقيف العديد منهم، من قبل الشرطة الفرنسية، وتسليمهم للشرطة السويسرية، لتقوم بدورها بإعادتهم إلى إيطاليا، وفي جيوبهم أوراق الترحيل. وبعضهم، بعد أن تمكّن من الوصول إلى ألمانيا، والمكوث فيها لسنة أو أكثر، ظهرت بصمته الأولى، فأعيد إلى البلد الأوروبي الذي دخل منه؛ إيطاليا مرة أخرى.
يختلف المشهد كثيراً بين البوابة الجنوبية والشمالية لإيطاليا؛ في الجنوب أعلنت حالة الطوارئ في قناة صقيلية، وهي المعبر الرئيسي للقوارب الغاصة بركابها، وصدرت الأوامر واتخذت الإجراءات بهدف محاربة سماسرة الهجرة غير الشرعية. ينتشر هناك خفر السواحل مع أجهزة الرادار، للوقوف في وجه التدفق البشري، أو كما أسماه أحدهم “التسونامي البشري”. بينما في ميلانو، يمارس السمسار عمله براحة، وربما بمباركة غير معلنة من بعض الأطراف، التي سمحت بتحويل الحدود إلى سوق للبيع والشراء. ويبقى التساؤل عن الهدف من وراء هذا “اللف والدوران”، فالمفاوضات تجري تحت عين الشمس، معريةً رياء الإتحاد الأوروبي وسياسته حول قضية الهجرة، والحق في اختيار مكان اللجوء. يتشابه في ذلك، وإلى حد بعيد، السياسي الأوروبي والسمسار؛ أحدهم يفاوض لتشديد الحماية على الحدود، و الآخر لإجتيازها. لا أحد منهما، يفكر في حق اللاجئ، باختيار وجهته النهائية.
أمام هذه الآلية المعكوسة في إدارة موضوع اللجوء، جاءت الأوامر بعدم أخذ بصمات الواصلين إلى جزيرة صقيلية، والسماح لهم بالتحرك باتجاه هدفهم. لم يدم ذلك طويلاً، ولم يكن هذا حال الجميع. سرعان ما عنّفت دول الإتحاد الأوربي إيطاليا على هذه المبادرة الهوجاء، خصوصاً في ظل التهديدات “الإرهابية” التي تعصف بهم. فكيف يمكن السماح للواصلين الجدد بالعبور قبل التعرّف عليهم، وسحب بصمتهم الجنائية، بينما تتزايد يوماً بعد يوم، الاحتجاجات والمظاهرات في بعض الدول، كألمانيا، لمناهضة الوحدة الأوروبية وتدفق المهاجرين.
لم يؤثرذلك كثيراً في وضع الواصلين إلى ميلانو، وإن كانت إشاعات تسري في أوساط السوريين، عن بدء السلطات الإيطالية بأخذ البصمات. ذلك يبدو إلى حد الآن عشوائياً وانتقائياً.
وفي النهاية، من قال إن المفاوضات يجب أن تكون على طاولة مستديرة أو حتى مستطيلة، ومن قال إنها بحاجة لديبلوماسيين، وممثلي بلدان محاطين بحشود من الصحافيين والمصورين، يتنافسون على سبقهم الإخباري، في طرح الأسئلة وإلتقاط الصور. كل هذه الإعتبارات تسقط في حضرة التفاوض على الحياة. ذلك حال السوري الهارب من الحرب، المهاجر إلى أصقاع الأرض البعيدة.
المدن