أوقفوا الحرب في سوريا/ نصري الصايغ
القتلى في سوريا، خارج التعداد. أرقام المهجرين والنازحين، خارج الإحصاء. أمكنة اللجوء والهرب وقوارب الموت، لا مطارح محدّدة لها. كيفما قلّبت الدقائق، تطالعك مأساة… لا إضبارات تتسع للملمة أسماء المفقودين وعائلات المعذبين والمعتقلين والمخطوفين والهائمين في صقيع هذا العالم. لا معنى للأرقام، مهما تعدّدت خاناتها، قياساً بعذابات السوريين وآلامهم ومواجعهم ومصائبهم غير المرئية. يستحيل تعداد الدموع التي تيبَّست وتملَّحت على وجوه غائرة في المبهم والسؤال المضني، بسبب فراغ الأجوبة. لم يصدف، على ما نقله تاريخ الحروب، توحشاً فائضاً ومعلناً ومنظماً ومتواتراً، كالذي في سوريا. استراحة المحاربين لا تتوفر لها أزمنة أو فسحات أمكنة. قتال يليه قتال يسبقه قتال ينتشر ولا يتوقف. قتال ما زال في بداياته، بحيوية مميتة وسياسات ببصمات إلهية وإيقاعات جهنمية.
يحدث كل ذلك، وأكثر منه، بلا هوادة. لا وقف لإطلاق النار. تتوالد المقتلة بلا انتظام. تتبارى حشود القتلة بالتذخير الإلهي، وتنتسب إلى «الصراط المستقيم» وتكفير من ليس في سياقه، حذو الحرف بالحرف، وحذو السيف بالأعناق. تتأبط أنظمة الجوار، تنظيمات الفتك والدمار، محتمية بفقه التصفية. من في الداخل قاتل وقتيل، ومن في الخارج قاتل، وقتيل مؤجّل.
تسقط اللغة في الرتابة عند وصف سوريا. إعجاز أن تلِمَّ بما ألَمَّ بها. يفوق التصوّر ويتفوق على التعبير. هو نوع من الجنون المتقن والسفك المعلن وانعدام الأمل ببصيص روح. لا مراثي أرميا تكفيها ولا بكائيات الكوارث العظمى… يقترب الوضع من خوف بحجم التاريخ، أن تصبح سوريا أطلالاً، ولا أحد يقف على ركامها.
اللعنة… لا لعنة تشبهها. حتى مروّجو التصريحات الاستراتيجية يشيرون إلى فداحة المذبحة وعجز وقفها. ومع ذلك، هل من خلاص، ولو مؤقت وقصير النفس؟ هل من وقف لإطلاق النار؟
من يظن أن الكلام الوارد أعلاه مبالغ فيه، مصاب بصدأ الإحساس وتورّم العصبية وتشنج الغرائز، أو هو اعتاد على تناول سوريا كحدث تلفزيوني، كخبر في وكالة أنباء، كنقل مباشر ومجتزأ ومنتقى، كمقالة في صحيفة، كتحقيق يجريه صحافي أجنبي (العرب ممتنعون عن هذا الفن) كخطاب سياسي في متن مناسبة، كتصريح عسكري مشكوك بصحة وقائعه… من يظن أن الوصف المختصر الوارد أعلاه عن سوريا ومجرياتها الدامية، يحرفنا عن «العمق السياسي والاستراتيجي للمعركة»، لا شك أنه مصاب بتبلُّد القيم وجفاف الروح وصلافة الحياد / الانحياز، وهو منحاز حتماً، إما لـ «فريق» أو «تنظيم» أو «نظام» أو دولة في «محور» أو منظومة في «تحالف»، ويقدم أهداف المعارك ووقائع الميادين، بما فيها من قتل وفتك ومجازر، على الإنساني، على قيمة الألم الإنساني ومذلة تسوّل السلام وطلب النجاة، بأي ثمن بائس. لقد فقدت السياسة، منذ ما قبل الحروب العربية، مشروعيتها الأخلاقية، عندما أخرجت الإنسان، كهدف لكل سياسة. واليوم، فقدت كل مشروعيتها، في ما تبقى من الخرائب العربية.
يحدث ذلك كله، تدفع الأثمان الشاهقة كلها، يُنحر الإنساني بلا وخزة ضمير، في وضع شبه مؤكد، يفيد بأن الحرب السورية المستمرة منذ أربع سنوات ونيف، مستمرة لسنوات ونيف كثيرة.
النظام لن يربح. سيدافع عما تبقى له، وقد يبقى له، بعد نهاية مطاف الخراب. سيتراجع ويقاتل إلى حدود يصمد خلفها. يلزم لذلك حروب وقتل وتدمير، يحاكي الركام السوري في المدن الكبرى والأرياف المأهولة بالدم. المعارضة، «حدِّث ولا حرج»، لا تقوى على كتابة نص يضع نقطة على سطر القتال. المنظمات الجهادية التكفيرية مصممة على تكبيد الله خسائره العظمى، وتكبيد الإنسان وجوده وكينونته.
هذه الحرب، الخاسر فيها لا يهزم، والرابح فيها لا ينتصر. نزول إلى الجحيم وطريق الرجوع عنها محفوف بالانكسار.
من يوقف هذه الحرب؟
القوى في الداخل، غير قادرة ولا راغبة وغير مسموح لها أن توقف القتال، أو أن تتوقف عن التقاتل في ما بينها. والذخيرة الدينية لا تنضب فقها وتنظيمات وحشوداً تأتي متسلّلة أمام العيون المفتوحة على المعابر، لتشارك في حطب الاشتعال. الذخيرة العسكرية تنمو تسليحاً وتدريباً. السعودية ماضية إلى آخر عمود في الهيكل. حربها على اليمن، لا تعفيها من حربها في سوريا. تريد رأس النظام، أو تغيير سوريا كلها. وبرغم ما يقال عن زيارات وإشارات سرية، ما زال الطريق معبداً بدماء السوريين. تركيا، لن تتوقف عن القتال ودعم المقاتلين. تريد رأس النظام، وشمال سوريا آمناً من الأكراد ومن «داعش». ومستعدة لحرب «المئة عام». قطر التي تراجعت عن أدائها المسرحي في واجهة الحروب، لم تنكفئ. خسائرها في مصر وفي تونس، تعوّضها في ليبيا وفي سوريا… النظام السوري، لم يعد عنده ما يخسره. خسر الكثير، ليربح القليل، وهذا يكفيه وسيدافع عنه حتى الرمق الأخير، ومعه، الفائز في الاتفاق النووي، و «المقاومة الإسلامية» في لبنان. وهذه تبلي ميدانياً بلاء مضموناً للبنان وللنظام في سوريا.
لم ولن ينتصر أحد في هذه الحرب. فمتى تتوقف، ومن يوقفها؟
قوى الداخل مستنفرة لمزيد من القتال. لم تسترح البنادق والمدافع والصواريخ والقاذفات وبراميل القتل بعد… المتوقع، المزيد من الأسلحة الحديثة. والمزيد من القتلى وأعداد البشر المطرودين من بلادهم…
قوى الخارج مستنفرة لمزيد من المعارك. السعودية ليست مأزومة أبداً. تقاتل في اليمن وتكسب. أهل اليمن يخسرون بلادهم وأجسادهم.
تركيا، ليست في وارد التنازل أو التراجع. تغيِّر أدواتها وتستمر في حربها، بالوكالة وبالأصالة.. مثلها مثل السعودية. أما «داعش»، كدولة إقليمية عظمى، فتكاد تثبت دعائمها في المناطق التي اجتاحتها، والمتفائلون جداً، يرون أن عمرها لن يكون قصيراً. وقبل أن تسقط سياسياً، لا مجال لإسقاطها عسكريا. وسقوطها سياسياً يفترض أن تتصدّر المرتبة الأولى من العداء، إزاء جميع الدول المشاركة في القتال أو المشتركة في المدى الجغرافي لمحيط «داعش».
الحرب إذا ما تزال في بدايتها.
التفكير بوقف الحرب في سوريا، يقع على عاتق من لا علاقة له بالحرب، ومن ينتمي إلى الإنسان أولاً، ولم يعد يقيم وزناً لحجج المحاربين والمتحاربين. الأهداف المعلنة لهذه الحرب في سوريا سقطت. لا قيمة أخلاقية لها، برغم القيمة السياسية والأهمية الاستراتيجية لها.
لم يبق غير أصحاب الضمير في العالم العربي والعالم، من نخب ثقافية وفنية وفكرية، لترفع شعار: أوقفوا الحرب في سوريا. تماماً كما فعل المثقفون، عندما رفعوا شعار «إسقاط الأبارتهايد» في جنوب افريقيا، وعندما شكلوا ضغطاً على قادة الحرب على فيتنام.
ليس من أمل غير هذا المستحيل.
السفير