أولاد الـ…./ أمجد ناصر
أعجبت بغير عملٍ شعريٍّ لمظفر النواب، فصحى وعاميةً، ولكني لم أُعجب بقصيدته التي كَتَبَتْ شهرته، بأحرفٍ من غضب: “القدس عروس عروبتكم”، وفيها يصرخ:
أقسمتُ بتاريخ الجوع ويوم السغبة
لن يبقى عربي واحد إن بقيت حالتنا هذي الحالة
بين حكومات الكسبة
القدس عروس عروبتكم
فلماذا أدخلتم كلَّ زناة الليل إلى حجرتها
ووقفتم تسترقون السمع وراء الأبواب لصرخات
بكارتها
وسحبتم كلَّ خناجركم وتنافختم شرفاً
وصرختم فيها أن تسكت صوناً للعرض
فما أشرفكم؟
أولاد القحبة هل تسْكتُ مغتصبه؟!
هذه القصيدة – الشتيمة انتشرت انتشار النار في الهشيم، في سبعينيات العالم العربي، المطبوعة بهيمنة اليسار على الحراك الشعبي والمناخ الثقافي، ومَنْ لم يقرأها مسحوبةً على الستانسل، المُهرَّب تهريب السلاح والمخدرات، سَمِعَها، على أشرطة مهربةٍ أيضاً، منعدمة الجودة، بصوت النواب المتهدِّج بالشعر والحزن والخمر.
كان موقفي السلبي من هذه القصيدة – الشتيمة ينطلق من اعتباراتٍ شعريةٍ وسياسيةٍ. الأولى تتعلق بالمباشرة وضعف الصنيع الشعري فيها، لصالح الشتيمة والصوت العالي، والثانية لأنَّ برنامجنا اليساري، آنذاك، كان يقول بالتغلغل، ببطء وعمق، في أوساط الطبقات الشعبية، وعلى رأسها البروليتاريا، وتسليحها بالوعي الثوري الذي من شأنه إحداث التغيير المنشود. لذلك، لم نرَ، نحن الذين كنا نفكر على هذا النحو، في “القدس عروس عروبتكم” قصيدةً على مستوى الفن الشعري، ولا تحمل “وعياً ثورياً” حقيقياً، بقدر ما هي “فشَّة خُلق” من برجوازي صغير، قصير النفس!
لا بدَّ أن كثيرين ممن سيقرأون هذه المقالة سيستغربون من ترسانة المصطلحات التي ضمَّنتها كلامي السابق، لكنَّ هناك قلة لن تستغرب: ذلكم هم الذين عاشوا في تلك الفترة. ففي هذه الترسانة يكمن بعض “بضاعتنا”. الكلمات والمصطلحات التي تحلُّ محل الواقع، وربما تصنعه، ولكن، في عرف الوهم الثوري فقط.
لم تبق قصيدة النواب هذه، طويلاً، في التداول الثقافي والسياسي، فقد طُرِدَ اليسار، بمختلف أطيافه، من الشارع، وتمكَّن النظام العربي من استعادة توازنه الذي فقده بعد هزيمة يونيو/حزيران 1967، وسادت الأخلاق البرجوازية المنافقة مع الصعود الديني المحافظ.
سيمرّ وقت طويل، كي أعرف أن هناك شعراء كباراً في العالم قذفوا أنظمة وحكاماً بالأحذية. أحد أهم شعراء أميركا، وأيقونة جيل “البيت”، ألن غينسبرغ، لم يُبق لأميركا، سياسة وثقافة واجتماعاً، ولم يذر. أقلّ ما قاله غينسبرغ لأميركا الإمبريالية: اذهبي أميركا وانكحي نفسك بقنبلتك الذريّة! أولاد القحبة، لمظفر النواب، التي اعتبرناها أخرجت القصيدة من الشعر إلى الشتيمة العارية، ليست سوى حبو متعثّر في عالم شعراء “البيت” الذين زلزلوا الأخلاق البرجوازية المزيّفة التي تسود بلادهم، خصوصاً في أوساط نخبتها السياسية والثقافية الأكاديمية. أحياناً، على الشعر أن يهبط من “عليائه” الجمالية، وأن ينزلق من أنابيق مختبراته التجريبية وقواريرها، وأن يخوض، بقدمين حافيتين، في طين الواقع، فهذا هو طين الحياة نفسها.
لدينا القليل مثل شعراء “البيت” في المدونة الشعرية العربية، ولكن ليس في الحاضر. نجد مثل هؤلاء في بعض الشعر الجاهلي والعباسي، وليس في زمننا المعاصر، إلا خارج التداول الثقافي بالكامل، مثل أحد أعمال نجيب سرور الذي لا أستطيع، بسبب هيمنة التهذيب البرجوازي الكاذب، أن أسميه. لكني سأورد نفثة غضب من محمود درويش، قالها بعد الخروج من بيروت عام 1982:
سأشخُّ مزّيكا
على تمثال أمريكا
أمريكا هي الطاعون
والطاعون أمريكا.
ولم يكرّر درويش، هذا البعد الشتائمي في شعره، بعد ذلك، فهو نفسه لم يكن يحتمل، على ما أتذكر نقاشاً بيننا، تعبير “أولاد القحبة”، على الرغم من أن مظفر يفعل ذلك من أجل فلسطين.
***
خطرت في بالي قصيدة النواب هذه، تحديداً، وأنا أرى الرئيس البوليفي، إيفو موراليس، يضع إسرائيل على قائمة الإرهاب. وبغضب صادق يطردها من هواء بلاده، فيما يقول نتنياهو إن كانت هناك فائدة من حربه المجرمة، المهزومة، على غزة، فهي في تمتين علاقات إسرائيل ببعض الدول العربية.
موراليس، الهندي الأحمر العظيم، يطرد إسرائيل كذبابة من علاقات بلاده.
وحكام بلادنا التي ما تزال تقف على أقدامها، قبل أن تهبُّ عليها “داعش” كالطاعون، يمدّون جسراً سرّياً مع إسرائيل، يعبر عليه الدعم السياسي، وربما المالي والعسكري.
فهل هناك قول، يُسدَّد، لهؤلاء غير ما قاله مظفر النواب لأسلافهم، قبل أربعة عقود؟
أولاد الـ….
العربي الجديد