أولوية الداخل
ميشيل كيلو
يواجه النظام احتمالات التدخل الخارجي من خلال دفع الوضع الداخلي نحو الانهيار التام، تحقيقا لأهداف ثلاثة: أولا: تخويف العالم من التدخل في سوريا، لاعتقاده ـ الصحيح ـ أن أحدا لا يتدخل في بلد يعاني من حرب أهلية، أو يعيش اقتتالا داخليا منتشرا وعاما. ثانيا: التعويض عن انهيار مؤسساته السياسية السريع واللافت، وخاصة منها حزبه الذي تلاشى بصورة تكاد تكون تامة في معظم أرياف وبلدات ومدن سوريا، عبر التسبب بانهيار مقابل يصيب شارع ومجتمع سوريا المتمردين عليه، عله يجد في انهيار المجتمع فرصا وممكنات يستعيد من خلالها بعض هوامش الفعل والمناورة التي خسرها بانحسار وجوده غير العسكري ونفوذه السياسي والسلطوي، عن مناطق واسعة من سوريا. ثالثا: إجبار الخارج على الدخول في تسوية معه تستند على حله الأمني من جهة، وتكيفه من جهة أخرى مع حقبة مديدة من الحراك المجتمعي، تدفعه إلى ذلك رغبته في تجنب الوصول إلى تسوية داخلية تجنبه تأدية ثمن باهظ سيقوض بنيته ومؤسساته وسياساته، وهو الذي اعتاد منذ عام 1970 على إعادة إنتاج شرعيته ووظيفته الداخلية من خلال تسويات خارجية، أهمها تلك التي رتبها الأسد الأب مع الأميركيين قبل الحركة التصحيحية، وأعيد تجديدها بعد الدخول إلى لبنان والمشاركة في الحرب ضد العراق، ثم خلال زيارة مادلين أولبرايت، وزيرة خارجية واشنطن إلى دمشق عام 2000، حيث باركت وصول بشار الأسد إلى سدة الرئاسة .
يركز النظام على الداخل في ظل تصاعد دور وحضور العوامل والقوى الخارجية في السياسات السورية، وتشكل وضع أنتجه الحل الأمني السلطوي، الذي فتح أبواب سوريا على مصراعيها أمام جميع أنواع الخارج، من أحزاب لبنان الصغيرة وصولا إلى أميركا مرورا بإيران وتركيا وحتى دولة قطر. وقد تزايد تأثير العوامل والقوى الإقليمية والدولية إلى الدرجة التي ستمكنها من تحديد مصائر بلادنا الداخلية والوطنية، وقد برز في الأشهر الأخيرة ميل قوي إلى أقلمة الصراع وتحويله من صراع داخلي، بين مجتمع يريد استعادة حريته من سلطة مستبدة إلى صراع دولي / إيراني مفتوح على احتمالات توسع مقلقة وسريعة، الأمر الذي يضع سياسات النظام وتوجهات الصراع الخارجي المتعاظم في حاضنة عامة مغايرة للحاضنة التي بدأ الحراك السوري منها، ويجعل من الصعب، إن لم يكن من المستحيل، إيجاد حلول للأزمة على يد قوى الموالاة والمعارضة في سوريا.
خلال هذا التطور، برز خطان تقاطعا وتعارضا ميزا سياسات النظام والمجلس الوطني السوري، تمحور أولهما حول تحصين وضع السلطة الداخلي، بعد أن فقدت معظم دعمها العربي والدولي، فردت على انهيار وضعها الخارجي بالسعي إلى القضاء على إمكانية تكون بديل داخلي لها، عن طريق حرف الحراك المجتمعي عن هدفه الرئيس: إسقاط النظام وبناء دولة مدنية ديموقراطية، وتوجيهه إلى مسارات أخرى تفتت وحدة الحراك وتبدل طابعه الديمقراطي والمجتمعي. في منطق النظام وسلوكه، لا علاج لاستمرار الحركة الشعبية غير دفع سوريا نحو فوضى عامة يفقد الشارع سيطرته عليها إلى أن ينهار تحت وطأتها، ووطأة الضربات الأمنية الشديدة التي يجب أن تلازمها. هذه السياسة «جربتها» السلطة خلال الأسابيع الأخيرة في حمص، حيث عملت عن وعي لإغراق «عاصمة ثورة الحرية والوطنية» في اقتتال أهلي متفاقم، اعتمادا على وضع بعض أطرافها الأهلية، في مواجهة عنيفة ومسلحة ضد بعضها الآخر.
بالمقابل، أعطى خط المجلس الوطني وزنا متعاظما للخارج ولعلاقاته معه بالمقارنة مع دوره الداخلي، وجنح أكثر فأكثر بعد تأسيسه إلى تعيين دوره بدلالات خارجية، مع أن الأصل في فاعلية ومصداقية أي دور خارجي يكمن في تقوية وتعزيز حامله الداخلي، الذي يجب أن يكون أساس ومسوغ وجود وحضور أي تشكيل معارض، بما أنه لن تكون هناك قيمة لما يفعله في الخارج، إذا ما انكسر حامله الداخلي أو تراجعت فاعليته وتقلص حراكه، وأجبره تراجعه على إعطاء أهمية متعاظمة لمواقعه الخارجية، مما قد يحوله، في حال استمر تراجع الداخل، إلى أداة في يد غيره. هذا المصير، لن ينقذه منه غير استعادة قوة حامله الداخلي وقدرته على منحه استقلالية، تجعله ندا للدول وشريكا فاعلا للمؤسسات الدولية، لا يستطيع أحد تقرير أي شأن سوري بمنأى عنه أو ضد إرادته. بغير رعاية داخل سوري قوي ومتماسك يستطيع مقاومة وتقويض ألاعيب النظام واللعب الإقليمية التي يسعى إلى إغراق سوريا فيها، لن يستطيع المجلس ممارسة تأثير جدي، دائم ومستقل، في السياسات الدولية، مهما حظي باعتراف خارجي، وقد يحوله التفاوت بين وضعه الخارجي والداخلي إلى جهة تسهم في اختراق الوضع السوري وربما الإقليمي. مع تجاهل ما أصاب أرضية الصراع العامة من تبدل خلال الشهرين الأخيرين، وتقلص حجم وفاعلية كحامله الداخلي، ستبرز الحاجة إلى تعويض هذا التقلص خارجيا، مقابل قيام النظام بتعويض تراجعه الخارجي داخليا، وعدم مقابلة هذا التبدل بسياسات ملائمة تستعيد منطلقات النضال الأولى وأهدافه وحامله المجتمعي وتحافظ على طابعه السلمي، سيواجه الحضور الخارجي خطر أن يغدو مجرد غطاء لسياسات ومطامح لا تتصل بأهداف السوريين وطموحاتهم الحقيقية.
هذه الأولوية، التي يعطيها المجلس الوطني للمجال الخارجي، لا يجوز أن تكون نتاج موقعه، وأن تصرف اهتمامه عن الحقل الداخلي وعن العمل لإقامة توازن دقيق بين الخارج والداخل في سياساته، انطلاقا من أولوية الداخل فيها، ما دام ممكنا تعيين علاقاته الخارجية انطلاقا من وضع داخلي متين، بينما يستحيل إنتاج وضع داخلي مقرر وقوي انطلاقا من أية علاقات خارجية، مهما كانت قوية ومتينة. لقد آن أوان تركيز معظم الجهد على الداخل، للحيلولة دون تخريبه على يد النظام وتغيير شروط الصراع بطريقة تمكنه من النجاة بجلده أو من بلوغ تسوية تكون لصالحه. ولا بد من أن يضع المجلس حدا نهائيا لردود أفعاله البطيئة والمتقطعة حيال تطورات داخلية قاتلة يغير النظام طابع الأزمة بواسطتها، ويحول نضال الشعب العادل إلى اقتتال داخلي لا ضابط له، إن استمر نقل المسألة السورية من المكان الذي انطلقت منه كثورة شعب مظلوم يريد الحرية والعدالة إلى مكان آخر، معاكس له تماما، لن تبقى معه أنماط العلاج التي تعتمدها المعارضة عامة والمجلس خاصة مواكبة للحدث أو فاعلة فيه، ولن يكون لعلاقاتها الخارجية أي تأثير إيجابي فيه، ولن تكون هي نفسها أكثر من جهة برانية وهامشية في نظر الشعب، مهما كانت درجة توطنها في النسيج الدولي، وتعالت دعواتها إلى تدخل عسكري أجنبي ستكون عاجزة تماما عن المشاركة في مجرياته. لهذا كله، يجب أن يكون الداخل ميدان الرد الرئيس على النظام، خاصة إن كان العالم يعتقد أنه سقط خارجيا، فلا داعي بالتالي لتقديم أية تضحيات من اجل إسقاطه داخليا، ولا بأس إن طال صراع يضعف سوريا ويهشمها بقوة سلطتها .
إذا كان هذا أو بعضه صحيحا، فإنه يلزم المعارضة عامة والمجلس خاصة بالعمل على إنضاج ظروف داخلية كفيلة بجعل الخارج يسارع إلى حسم موقفه المتردد، عن طريق وحدة المعارضة ووحدة الشارع، وكبح ثم منع الاقتتال الداخلي، والمحافظة على سلمية الحراك، وتقوية الوحدة والتفاهم بين مكونات الشعب، وتكامل نشاط المجتمعين المدني والأهلي، والصمود في وجه سلطة تخطط لارتكاب مجازر كبيرة تخمد الحراك قبل وصول العرب والعالم إلى قرار حاسم بشأنه، والتركيز على الدول الداعمة للنظام، لإقناعها بعدم الدفاع عنه أو حمايته من القانون الدولي، أو التضامن معه.
هذا التركيز على الداخل يجب أن يبطل ويحيد ويشل مشاريع وخطط النظام حياله، وأن يبقي المجال الداخلي ساحة وحدة وطنية وحرية ومجتمعية ومدنية تضم كل سوري دون أي استثناء. بغير هذا سينهار توازن العمل الوطني، وسيكون للسلطة التأثير الأكبر في أوضاع بلادنا العامة، وستواجه الثورة متاعب سيصعب عليها أكثر فأكثر تخطيها. هنا لا بد من التأكيد على أهمية أن لا تتقاطع أو تتكامل سياسات أي طرف معارض مع سياسات النظام، وخاصة منها تقويض سلمية الحراك وتبني أفعال وأقوال طائفية، والامتناع عن تشجيع العسكرة كفعل خارج أية سيطرة سياسية، وعدم الانجرار إلى استغلال حاجة المواطنين إلى الحماية من أجل ممارسة عنف مفتوح وأعمى يصيب أطرافا وجهات ومواطنين لا يجوز المس بأمنهم أو حياتهم، لأي سبب كان.
يجب أن يكون الداخل ميدان الحسم الرئيس، الذي لا بد أن نرى الوضع الدولي بدلالته، كي لا ينقلب إلى ساحة تنضوي في حسابات خارجية لا علاقة لها مع أهداف شعبنا ومقاصده، التي تتلخص في نيل الحرية بطرق تعزز استقلال وطننا، الذي لن يبقى حرا إن هو فقد أي قدر من إرادته المستقلة.
هل يعيد المجلس النظر في أولوياته؟ إن انتصار الثورة في سوريا يتوقف أيضا على نمط جوابه على هذا السؤال!
السفير