أول ثورة في التاريخ يقدح شرارتها أطفال*
فرج بيرقدار
لا بأس من البكاء قليلاً على الشعب السوري وضحاياه ، ولا بأس أيضاً من الثقة في أنه سيصل قريباً إلى حلمه في الحرية.
بعد سقوط زين العابدين بن علي، قال مبارك أن مصر تختلف عن تونس، ولكنه سقط في زمن قياسي، وقال القذافي أن ليبيا تختلف، وهاهو يتحول من “ملك ملوك أفريقيا” كما يحب أن يسمي نفسه، إلى مجرم حرب يقصف المدن الليبية بصواريخ غراد العمياء.
ومثلهما قال الرئيس اليمني، وكذلك الرئيس السوري الوريث، الذي تحوّلت معه سوريا من جمهورية اسماً إلى ملكية مضموناً، ولم أكن لأكون ضده لو حوّلها إلى ملكية تحترم نفسها وحرية شعبها.
ديكتاتوريات عربية متشابهة ومتراصفة بالتتالي أمام تسونامي الثورة الذي بدأ من تونس، ورغم التشابه فلكل ثورة شرارتها الخاصة.
خصوصية سوريا تتلخص في أن بعض أطفال مدينة درعا، هم من قدح شرارة الثورة.
أطفال لم يعرفوا أو لم يوافقوا أهاليهم على الخوف، ولم تردعهم أمثولات الرعب السابقة من مثل تدمير مدينة حماة عام 1982، حين قُصِفت المدينة بالدبابات والمدفعية، مخلِّفةً وراءها ما يزيد عن عشرين ألف قتيل، إضافة إلى عشرات الآلاف من المفقودين والمعتقلين.
في ليلة ما اعتقلت السلطات 15 طفلاً من مدينة درعا، أعمارهم بين 10 و 15 عاماً، كتبوا على جدران مدينتهم: “الشعب يريد إسقاط النظام”، وهو نفس الشعار الذي سمعوه ورأوه على التلفزيونات في تظاهرات تونس ومصر.
حاول الأهالي الاتصال بعدد من المسؤولين لإطلاق سراح الأطفال، غير أن السلطات لم تستجب. عندها نزل شباب المدينة إلى الشارع، ثم تبعهم الآباء والأمهات والإخوة والأخوات.
بعد أسبوعين أُفرِج عن الأطفال، ليكتشف الجميع أنهم تعرضوا لتعذيب وحشي بلغ حد قلع الأظافر، ولتأخذ الثورة منحى تصعيدياً ووجِه بتصعيد أمني وحشي، ثم انتشرت نار الغضب الشعبي ضد الطغيان لتشمل معظم مناطق سوريا، ولتصل إلى نقطة اللاعودة.
48 عاماً متواصلاً وسوريا تعيش تحت حالة الطوارئ، أي ما يعادل ثلاثة أو أربعة أحكام مؤبدة وفق القوانين السويدية، ويبدو لي الآن أن الأجيال الجديدة في سوريا قد قرّرت أنها لن تنتظر أكثر، وأن مجزرة حماة التي مرّت بصمت عالمي سنة 1982، لن يمرّ مثلها الآن بصمت، فالأجيال الجديدة تعرف كيف تدافع عن مستقبلها، وكيف تتعامل مع الإنترنت والموبايل والقنوات الفضائية.
في البداية ادعى الإعلام السوري أن وراء التظاهرات جهات خارجية، فاعتُقِل أحد الناشطين المصرين وأُجبِر على الاعتراف على التلفزيون السوري الرسمي بأنه عميل لجهات أجنبية، ولكن النظام السوري اضطر لإطلاق سراحه بعد أيام، لأن ذلك المصري لديه جنسية أميركية. تحدّث الرجل حين وصل إلى مصر عما حدث معه فسقطت ألاعيب النظام السوري.
ولكن الإعلام السوري اخترع كذبة جديدة تقول إن تيار الحريري في لبنان يهرِّب أموالاً وأسلحة إلى المتظاهرين في سوريا، ولكن سرعان ما انهارت هذه الأكذوبة، فادّعى النظام أن هناك مجموعات سلفية إسلامية مسلحة تقوم بإطلاق النار على المتظاهرين وعناصر الجيش والأمن، وفي الواقع كما توضح صور الفيديو أن تلك المجموعات المسلَّحة إنما هي مجموعات أمنية وشبّيحة وفرق موت خاصة بالنظام، إلا إذا كان هناك مجموعات قادمة من الفضاء الخارجي ويتحفَّظ النظام على ذكرها لأسباب تتعلق بأمن سوريا التي عشت فيها قرابة خمسين عاماً، ولم أشعر فيها بالأمن ولو للحظة واحدة.
من المعروف مجازاً، وواقعياً إلى حد ما، أنه ما من طائر يستطيع المرور في سوريا بدون مساءلة أو تحقيق وأحياناً نتف ريش.
بين يدي الإعلام العالمي اليوم ما يكفي من الوثائق والأرقام والأسماء الفيديوهات التي تكذِّب النظام السوري وإعلامه.
ضاق النظام ذرعاً باستمرار التظاهرات فقرر الانتقام من مدينة درعا التي هي أمّ الثورة السورية بحق، فأرسل إليها أربع فرق عسكرية لتحاصرها ثم تقصف أحياءً عديدة منها، ثم تقطع الكهرباء والماء والاتصالات والأدوية، بل وتمنع الأهالي حتى من سحب جثث الضحايا من الشوارع. ربما توقّع النظام أنه يستطيع بذلك تأديب الشعب السوري وإخماد الثورة، غير أن النتيجة جاءت على عكس ما يتوقع، إذ هبّت معظم المدن، لنجدة درعا المحاصرة، بتظاهرات حاشدة ما زالت تتسع رغم أعداد الضحايا المتزايدة التي تسقط يومياً برصاص قوات الأمن والشبّيحة.
الآن وبعد حوالي شهرين على اندلاع التظاهرات وسقوط ما يزيد عن ألف شهيد، أي ما يقارب عدد شهداء الثورتين في تونس ومصر، يمكن القول إنه ما من مدينة أو بلدة أو قرية سورية إلا دفعت ضريبتها من أجل الحرية، فهل يريد النظام ثمناً أعلى؟
الدماء الغزيرة التي أراها على الصور المرسلة بوساطة كاميرات الفيديو أو الموبايل، أعداد الشهداء ونسبة عدد الأطفال بينهم، حالات القمع الانتقامي الجماعي وقصف المدن والأحياء بالمدافع والدبابات، كل ذلك لم يعد يقبل تأويلاً كما لا يقبل تكذيباً.
لم أرسل لأصدقائي الأوروبيين، من أفراد ومؤسسات، جميع أفلام الفيديو التي لدي، وذلك خوفاً من أن أتسبب لهم بصدمة، أو أن لا تحتمل أعصابهم رؤيتها.
لدي أفلام فيديو تكفي لاستقالة الله من منصبه في ألوهة لا يستطيع إليها سبيلاً. ومع ذلك ما زال الإعلام السوري الرسمي يحاول تغطية الشمس بغرابيله، وينفخ سمومه وأكاذيبه في قِرَبٍ مثقَّبَة وبالية.
لقد خسر النظام معركته الإعلامية، وإنها لدلالة رمزية بالغة الأهمية أنه لأول مرة في تاريخ سوريا المعاصر يستطيع الإعلام الشعبي البسيط أن يفضح الإعلام الرسمي ويهزمه بأدوات بسيطة ولكنها ذكية وماهرة وذات مصداقية عالية.
العالم بمجمله يعرف الآن حقيقة ودموية وفظائع ما يقوم به نظام الأسد وأمنه وشبيحته ضد الشعب السوري الموَّحَّد والأعزل والمسالم، ولذلك لم يعد في إمكان العديد من دول العالم تجاهل ردود فعل شعوبها.
ومع ذلك فإن الإعلام السوري الرسمي ذو رائحة كريهة حقاً يشعر بها الجميع باستثنائه هو.
*نشرت المقالة أولاً باللغة السويدية في مجلة الأمنستي- فرع السويد (أمنستي برس) بتاريخ 2 أيار/ مايو 2011.