أوهام إصلاح «حضن الوطن»/ رستم محمود
مع توسيع النظام السوري سيطرته العسكريّة، وتحصيله اعتراف عدد من الدول، فإن عدداً من «المعارضين» والشخصيات السوريّة، من مختلف المستويات، صاروا يحاولون مصالحة النظام، والاندراج في سياساته ومؤسساته وقراءته لما يجري.
يعرف النظام هؤلاء الشخصيات جيداً، يعرف أنهم لم يكونوا يوالون النظام في صميمهم في السنوات التي سبقت الثورة، وأن انشقاقهم لم يكن لخيارٍ وجداني وسياسي، بل فقط لإعادة ترتيب مواقعهم ومصالحهم. وبالتالي فالنظام يعرف أن عودتهم الأخيرة هذه، هي شيء من السعي لإعادة ترتيب أوضاعهم من جديد، بعدما فقدوا الأمل بقدرة المعارضة على توفير ما كانوا يأملونه.
لذا فالنظام يُسهل لهم الطريق نحو ذلك، طالما أن العلاقة بين الطرفين ستعود إلى ما قبل 2011: كُل شيء للنظام مقابل لا شيء لأي أحد.
كذلك فهم يعرفون غريزة النظام جيداً، ومدى البراغماتية التي كان وما زال يتعامل بها مع الفئات السياسيّة الهامشيّة والرديفة له، خصوصاً الفئات الطائفيّة والاقتصاديّة التي لا تواليه جوهرياً. فالنظام كان وما زال يقبل بهامشٍ غير سياسي لها، طالما أنها تُظهر مزيجاً من الولاء السياسي والذميّة الخطابيّة.
على أن هذه الموجة من العائدين إلى «حضن الوطن» مُغلفة بخطاب تقريعي عن المؤامرة التي انتبه إليها العائدون مؤخراً وفجأة!، عن الوطن والوطنيّة والإصلاح من الداخل، عن الفصل بين الدولة والنظام، وكيف أن عودتهم الميمونة ليست إلا في سبيل تصحيح الخطايا التي وقعت فيها الثورة.
يوحي العائدون بأن السبيل السليم لتحقيق المرامي والتطلعات كامن في التخلص من ضغوط ومؤامرات الخارج، والعودة للعمل من الداخل بكُل شروطه القاسية، وتحقيق الإصلاح والمواجهة المباشرة غير العنيفة مع النظام من الداخل.
قبل هذه الموجة، في السنتين الأوليين من الثورة، ظهر شيء مُطابق لهذه النزعة ضمن بعض تيارات المعارضة. هيئة التنسيق الوطني وتيار بناء الدولة وحزب الاتحاد الديموقراطي الكردي والكثير من الأحزاب «الخُلبيّة» المرتبطة بأجهزة النظام، كانت تحذر من الخلط بين نظام الأسد والدولة السوريّة، وتطالب بأن تتوجه الثورة لانتزاع الدولة من النظام، وأن يكون التركيز على هذا المطلب، لا على اسقاط النظام.
لكنها في الطريق إلى ذلك، كانت تملك جدولاً من المطالب والشروط والتحذيرات، انتهت في المُحصلة لأن تكون سيفاً على الثورة نفسها. فشعارات مؤتمر هيئة التنسيق في صيف 2011 انتهت باتهام الثورة والتشكيك فيها، موفرة للنظام الشرط الأدبي والسياسي للقضاء عليها، وذلك حينما رفعت شعار «لا للطائفية ولا للعنف ولا للتدخل العسكري»، موحية بأنها من سمات الثورة، ومن دون أن تقول لأحد «نعم لماذا!»، ومَن هو الطائفي والعنيف والعسكري!. لكنها في أعلى درجات المُخادعة وزعت وهماً عميقاً بأن المُشكلة هي هذه المنطلقات وليست في النظام، وأنه في حال الالتزام بها فإن شيئاً ما سيتغير.
طوال عقد حكم بشار الأسد قبل الثورة، كان ثمة مبشرون بإصلاح النظام عبر الخصخصة وفتح السوق السورية. كان أبناء الجيل الثاني من رجال حكم الأسد يوحون بأن الاستثمارات الاقتصاديّة وتفكيك شبكات الأمان العام الصحية والغذائية ستوفر بيئة إجبارية لتحولٍ جوهري وهادئ في سورية، وأن شرط ذلك هو تخلي المعارضة عن أية مطالب سياسيّة قد تُخيف رأس النظام وتدفعه لإلغاء هذا الانفتاح الناعم. كان ثمة جيش من الكُتاب والإعلاميين و «السياسيين» يرفدون دعاية هؤلاء المروجين بسيلٍ من الأحاجي والتنظيرات والإصطلاحات. غرق السوريون طوال ذلك العقد بمناظرات عن الإصلاح الإداري والمؤسساتية ومحاربة الفساد والتطوير والتحديث.
كان يوازيهم تيار نظير، يقوده رئيس منصة موسكو الحالية قدري جميل، عبر جناح من الحزب الشيوعي السوري. كان هذا الأخير يوحي بأن الإصلاح والتغيير يبدآن بمقاومة الانفتاح الاقتصادي والاستثمارات العالمية في سورية، وبأن مُشكلة سورية هي في النُخب الاقتصاديّة والإداريّة، وأن هذه الأخيرة تبتلع السياسة، وأن التحرر هو فقط بالاعتناق من هذه الطبقة. لم يكن يقال شيء عن الاستبداد السياسي والأمني، ولا عن شكل علاقة الملكية والارتباط العائلي بين هاتين الطبقتين!.
وكانت أحوال السوريين وقتها من العبثية بحيث أن قائد هذا التيار «الشيوعي» كان وكيلاً حصرياً لعدد من الشركات الدولية ضمن سورية.
قبلهم بعقود كثيرة، كان البعثيون ونظراؤهم من أحزاب الجبهة الوطنية التقدمية يوحون بأن الرخاء والحريات العامة لن تأتي قبل الانتهاء من معارك الأمة الكبرى. وأن الانخراط في هذه المعارك عتبة للتفرغ لمواجهة المعضلات والتناقضات الداخلية. لكن جيش الملتزمين البعثيين والجبهويين أولئك لم يبالوا بتحطيم النظام للداخل السوري بتخطيط وإصرار، ولم يحقق أي نصرٍ خارجي قط.
دوماً كان ثمة تجاهلٌ متقصد لفهم بُنية النظام وطبيعته، تجاهل وصل بعد الجرائم الفظيعة التي مارسها النظام في السنوات الأخيرة إلى عتبة المشاركة فيها، وإن من موقع المعارض والإصلاحي. فمجرد وجود هذه المواقع يوحي بأن النظام ينتمي إلى عالم الأنظمة السياسية الطبيعية، إذ إن موقعه وهويته نسبيتان وقابلتان للمناقشة العامة، وهو ما يشحنه بطاقة من الشرعية، وإن على جُثث نصف مليون ضحية.
* كاتب سوري
الحياة