صفحات الثقافة

أيـن صرتـم أيهـا المثقّفـون؟


محمود محمد اسد

الساحة العربية في حالة غليان واضطرابات مقلقة. وكأنّها على بركان حانق، لا يعرف الخمود، أو استيقظ بعد نوم مديد على جنباتها التي أدمنت الثبات والسّبات. استيقظ ليقذف حممَه فوق ملايين العرب وأسرّتهم التي ضجرت من ركونهم، لقد استولت عليهم الغفلة لعقود وقرون طالت، استسلموا فيها للتّنظير والبكاء على الماضي والتغنّي به. راحوا فيها بعيدا بحثا عن آراء وخلافات ولّدت اختلافات زعزعت العقل الذي أصبح معتقلا. ليت النقاش والخلاف والتنظير ولّدت أو أنجبت حالات فاعلة منتجة ومنشّطة، فقد انعكست الحالة وتحوّلت إلى صيغة قاسية وأحكام قطعيّة جائرة من تكفير وتخوين وزندقة وعمالة وآخرها الإرهاب والسّلفية. كلّ هذا دون تأكّد ودون دراية لطبيعة هذه التّهم وما تجرّ على المجتع، وذاكرة أبنائه الذين اكتفوا بعناوين الصّحف والأخبار ورؤوس الموضوعات، فأنتجوا ثقافة الخبر المتداول. واحترق معنويّا وحقيقةً الكثيرون ممّن ظنوا المناخات مناسبة ومعافاة وحدّث عن النتائج.

الأرض العربية تستيقظ على حين غرّة، وتسلك الدّرب دون ربّان أسّس، ودون وعي ثقافيّ كوّن كوادره، ودون خطاب دينيّ عصريّ ملازم تطوّرات الحياة، خطاب لم يستطع حلّ الكثير من المستجدّات الراهنة بل عقّدها عندما اقترب منها، الذين استيقظوا شباب قستْ عليهم الظروف، وتخلّى عنهم المجتمع الذي غرق بالسلبيّات التي انتشرت روائحها، وشاعت أساليبها، وتفاقم أمرها أمامَ الممارسات والتجاوزات التي جاءت على حساب الوطن والمواطن. وهنا مركز الداء وأضفْ إلى ذلك استسلام المثقّفين للتنظير والبحث عن صورة ولقاء ودولة تمنحهم حقّ اللجوء السياسي الذي يخوّلهم لتنصيب أنفسهم بالمنقذين، وكأنّهم لا يعرفون أنّ الناس تعرف الصغيرة والكبيرة وكلَّ أساليبهم وما فيها من تلاعب ولفّ ودوران.

الأرض العربيّة تتجرّع حَنَق المعتوهين المرضى، توخزها التجاوزات، تفتح صدرها وصفحاتها للحبّ وهي صفحات كتبها الواقع والألم والإحساس بالضياع والمصادرة بعيدا عن نتاج المحلّلين والمثقّفين الذين استسلموا لذاتهم المتضخّمة، ولعقولهم المعتقلة التي تريد الانعتاق، فتذهب بعيدا بعيدا، تسدّد الكرة بأقدام عرجاء، وخارج الملعب الميدان. ومع ذلك تقول لي: «الكرة في ملعبك» وأيّةَ كرة يقصدون؟ وأيَّ ملعب يريدون ويتحدّثون؟ الكرات تناثرت وتفرّقت. هي كرات من الثلج وعليكم الحكم. والملاعب امتلأت حفرا وصديدا وإصابات، وأضفْ إليها أنّها لم تُحدّدْ أبعادها، وقد غُيِّب حكّامُها. وتوارى عن الأنظار ربّانُها، والحكَمُ المحاصر يتأمّل، ويبحث عن نصيبه وحصّته من لقاء إعلاميٍّ، يبرّر له صمتَه المشؤوم، فلم تبق له سوى الإشارة وبيد مكفوفة.

عجيب أمرُنا يا أهلي، وغريب شأنُنا نحن ـ أهل الضاد ـ تجاوزت كلمة يا عرب. نمنا قرونا على عسل الوعود، واستسلمنا للأحلام والأماني، فأسكرتْنا الخطبُ الرّنّانةُ وتلك القصائد العصماء، وصفّقنا للطلّة البهية. وزغردت النساء لأجمل الشعارات التي تنادي بحرّيتهن، ورجالُهنّ في الأصفاد والضّياع. لقد تجوّلنا في غير مدننا وغير أحيائنا، واستعرْنا معاجم لغوية من غير لغتنا، وارتدينا أفكارا سرعان ما تذوب مع أوّل قطرة ماء تقذفها سيّارة مستوردة يقودها سائق من نتاج الحياة الراهنة، لم يوقفْه إنسان عند إشارة، ولم يخالفْه درويش من هذا الزمان. ذهبنا أبعد من ذلك، فبحثنا عن أساليب تتفوّق على الأبالسة فمنحتْنا رتبة أستاذ رحْنا نفتح بصرَنا وجيوبنا وأفواهَنا قبل أن نفتّح بصيرتنا. وما لَنا وهذا التعب؟ رحْنا نُغلق أعيُننا وأفواهنا حرصا على شعور أهل نِعَمنا، وخوفا من غضب زوجاتنا وصديقاتنا وأولادنا. وحرصا على سلامة العباد والأسياد وأولي النِّعمة علينا، ومن يقبلُ على نفسه أن يكون جاحدا وكافرا بالنِّعمِ التي غمرته، وملأت عليه البيت؟ حملْنا مشاريعنا الكبرى، وتاجرْنا بها سلوكا وقولا وشعارات وأسلحةً تتناسب مع كلّ الأنواء. أعدْنا صياغتَها، ورتّبناها مناسبة لكلِ مقام، أليست البلاغة حسنَ التصرّف وحسنَ التَطلّع للأمام؟؟

استيقظنا على أرصفة الموت المجّاني برصاص وراجمات الأخوة والأصدفاء والزّملاء والرّفاق ولكم أن تعدّوا بقية الألقاب. استيقظنا على أصوات ليست أصواتَنا، تلاحقنا الخناجر والجِمال والنياشين التي تحوّلت رشّاشات وبنادق ويا لحسن الختام.

نعم استيقظنا ولم نقرأ كتابا أو بيانا ولم نقتنِ صحيفة أو كتابا، ولم نتّبع عالما ولا شيخا ولا قادة الأحزاب. استيقظنا دون منبّه ودون هزّة خصر أو لكزة تقول: قم للصّلاة. تسألني:

كيف حصل، وكيف كان؟ وتسألني أين المكان؟ ومتى الزّمان؟ ومن الأشخاص؟ ولمن يتبعون؟ وما الشهادة التي يحملونها؟

انتظرْنا الحريق الأولَ من رجل مفجوع فتح كلّ الأبواب الموصدة بعود ثقاب. انتظرناها من قادم بعيد لم تلوّثه ترّهات الحوار والطائفيّة والسّياسة المصنوعة بقرار. كان يعيش في أضيق المعابر والمسافات. أنهضَنا على بعد خطوة مفاجئة لم يسبقْها القرار. فكان الشّرارة ونحن نتحادث ونتحاور وندّعي الجَمال والنقاء والبهاء ولكنّ الحياة الصّعبة أغرقتنا فهربنا لشهوة الحوار الذي يعرّينا ويبعد عنّا الدّثار. نهضنا من صحونا ونحن نرسم ربيعا للورد والزهر والياسمين والخزامى والأقحوان غير أنّا أضعنا الألوان.

سرْنا على خطوط بيضاء وأرصفة مصافحة نقاءَنا، لا نشتم، ولانكسر، ولا نحطّم. لخطانا طعم الزيتون ولحديثنا رائحة البيلسان. سرنا نحمل راية الأوطان، وتركناكم تفكّرون بلغة تحضن هذا المقام.

نهضنا من سُبات هدّ رجولتَكم، وأنهك ظهوركم، لا نبغي دما يُراق، ولا عظما يكسّر، ولا نريد الحزن لبيتٍ أُشعِل فيه الضّياء. سرنا راياتُنا الحبّ، والولاءُ للخير والوطن. نقلّب صفحات الخير، ونسطّر صفوَ المسار. ننظر للزّمان والمكان والانتماء بمشيئتنا. لا يقودنا شاعرٌ يعادي الشّعور بالفصاحة والبيان. ولم نقرأ لصحافيّ يعمل للدولار ويُحاسِب على الكلمة والحرف والعنوان. ولم نتّبع منظِّرا يصادق الأحلام وهو عاطل من العمل في سبيل أسرته وأهله والجيران. أبعدْنا عنّا كلّ لوثة، أبعدْنا كلّ التيّارات سوى تيّار الوطن، جمّعنا كلّ الفئات والطوائف والأطياف وجعلْنا هوية الانتماء الوحيد للوطن. سرنا دون ألقاب وصفاتٍ، ودون هوّيّات سوى هوِّيّة الوطن والصّلاح والإصلاح. فاجأْناكم وأيقظناكم من نومكم، وعكّرْنا عليكم صراعاتِكم الفكريّةَ التي نخرتْ عظامَنا، وثقبتْ عقولَنا، وجمّدت بصيرتَنا وأحاسيسنا لأنّنا لم نكن نرى إلا ما يُملى علينا، ويُرسم لنا، ويُنحت ويسمَّى، ويعلّق فتعبْنا وأتعبناكم بعد ذلك. لقد انفضّ النّاس عنكم، واستعذبوا العفويّة والبساطة ونفروا من العقد والبذلات الأنيقة والحقائب الملأى بالبهتان والتورية والتفقّد للحضور والغياب والتصفيق وعدمه، فيها المشاريع والتركة وأسماء الموتى القادمين.

الآن لستُ القاضي ولست الحاكم، ولست الباحث إلا عن درب جميل يتغنّى ويحيا له العباد. ولستم السادة والأشراف والمنزّهين، ولستم الأوّل والآخر والعالم والحكيم والقدير والمعطي، خسرتم الرّهان الأخير. خسرتم أنفسَكم وأقلامَكم ولحاكم وعماماتِكم وأدعيتكم ودعواتكم، قبل أن يحين موعد الحصاد.

خسرتم الكثير من القصائد والخطب والمقولات. وخسرتم رصيدكم إن وُجد. وربحتم طلّة بهيّة وحوارا أصمّ من قناة شوهاء. ماذا تركتم لأنفسكم؟ تركتم انقساماتِكم. فالحزب صار أحزابا، والحداثة صارت حداثات. والوطن عندكم أضحى أوطانا. والين أمسى أديانا، سترتاح المقاهي والمنابر والصحف والأقلام من كلّ هذه اللّوثات.

إنّنا جمعنا كلَّ ذلك في ثوب واحد، وعقل واحد وعلى مائدة واحدة، لا حصّة فيها لمنتهز ومنافق ومراءٍ وتاجر فاجر. لا تحاولوا بعد هذا اليوم، فلم يعُدْ عقلُكم معتقَلاً لأهوائكم ونزواتكم وأولادكم وبنوكِكم في الخارج. أين كنّا أيّها المثقّفون؟ أين صرنا أيّها المثقّفون؟ قدّموا بياناتِكم، أم أنّكم لنومكم وأنفسكم مستسلمون. ولصوركم تنظرون. وبأنفسكم تعجبون. ولغيركم لا ترحمون، وبهم لا تعترفون…

(كاتب سوري)

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى