هناك، في الحواضر والأرياف السوريّة، تستمر المعارك بلا هوادة: مجموعات مسلحة تسيطر على كثير من أحياء المدن والقرى، وتحاول كتائب كثيرة فرض سلطتها الدينية على السكان. يتسلل المقاتلون عبر السهول والجبال وينصبون الكمائن، يقتلون ويختطفون الجنود والمدنيين، ويقصفون الأحياء المدنية التي يسيطر عليها النظام. وترد القوات النظامية والميليشيات التي ترافقها بالقصف والاجتياح والحصار وإحراق البيوت وإتلاف المحاصيل. جرائم كراهية متبادلة وعشرات آلاف المفقودين من الطرفين.
لم تعد هذه ثورة إذاً، إنها حرب أهلية عبثية لا مجال للمفاضلة السياسية أو الأخلاقية بين طرفيها.
يلخص هذا وجهة نظر باتت شائعة بين كثيرين في بلادنا العربية، ووجهة نظر كثيرين هناك في الغرب، الغرب الذي يقال انه يتآمر على النظام السوري. على أي حال، فإن الوصف أعلاه يبدو دقيقاً إلى حد بعيد، وإذا كان إعلام النظام وإعلام المعارضة السورية ينكران على حد سواء كل هذا، ويلصق كل منهما جميع الجرائم بالآخر، فإن سياسة الإنكار هذه باتت مثيرة للسخرية. ليس ثمة ملائكة وشياطين في سوريا، ثمة طرفان يتصارعان في طول البلاد وعرضها بلا قواعد اشتباك، اللهم إلا تلك التي تفرضها الأخلاق الشخصية لقائد كتيبة هنا أو ضابط هناك.
وصف الصراع على هذا النحو صحيحٌ، ذلك باستثناء إغفاله فارق القوة النارية الهائل بين الطرفين، والفارق في منظومة التحكّم والسيطرة. ولكن ماذا عن النتيجة المشار إليها؟ هل إنه لم يعد ثمة ثورة في سوريا حقاً؟ هل يصحّ القول إنها حرب أهلية عبثية لا مجال للمفاضلة السياسية أو الأخلاقية بين طرفيها؟
تتعلق الإجابة قبل كل شيء بالمعرفة، وبشيطان الايديولوجيا والتفاصيل أيضاً: المعرفة التي تفترض أوصافاً ومسارات معينة لأي حركة شعبية حتى تستحق وصف الثورة، والايدولوجيا التي تفترض أهدافاً وشعارات بعينها لينطبق على حامليها وصف الثوار، والتفاصيل التي لا أول لها ولا آخر عن الجهة التي قتلت هنا والجهة التي اختطفت هناك. الأسئلة والتنظيرات الأيديولوجيّة تبدو عقيمةً تماماً، وأمام بحر الدماء والفوضى والتدخلات الخارجية تبدو ولادة سوريا الديموقراطية على أنقاض نظام الاستبداد ضرباً من الخيال.
لكن أولئك الذين انتفضوا سلمياً ثم حملوا السلاح كانوا ولا يزالون يطالبون بتغيير منظومة توزيع السلطة والثروة التي أرساها نظام الأسد خلال أربعين عاماً من الحكم. هم ثائرون على هذا النظام إذاً، وعلى مؤيديه أيضاً، ثائرون سواء أعجبتنا ثورتهم أم لم تعجبنا. وأول ما يقال هنا انه لا يشترط في الثورة أن تعجبنا حتى تستحق وصف الثورة. يمكن للإنسان أن يقف على الحياد أو حتى بالضد مع ثورة لأنها تطرح مشروعاً لا يتوافق مع إرادته ومصالحه ورؤيته. هكذا يبدو الإصرار على نفي وصف الثورة أساساً عما جرى ويجري في سوريا وسيلةً فحسب، وسيلةً لإنزال العبء عن كاهل أولئك الذين يناصبونها العداء أو ينأون بأنفسهم عنها.
ثم هل يعني وصف ما يجري في سوريا بالحرب الأهلية أنه لم يعد ثمة ثورة هناك؟ لماذا يجب أن يعني هذا؟ لا مناص من التذكير هنا بأن كل نظام حكم في العالم يقوم على شرائح اجتماعية تدعمه، وأن إصرار هذه الشرائح على دعم النظام في حربه على مناوئيه الداخليين، وبصرف النظر عن مبررات هذا الإصرار، يحول الصراعَ إلى حرب أهلية، سواء كان أولئك المناوئون ثواراً أم مجرد عصابات مسلحة.
لن يجد الباحثون عن الثورة السوريّة أثراً لها في تفاصيل الشعارات والمعارك ما داموا يبحثون عنها على قاعدة أخلاقية طهرانية، فالتجويع والموت والتعذيب في السجون تتحدّى الأخلاق الإنسانية وتفرض التعامل معها بنسبية، كما لن يجدوا أثرا لها ما داموا ينطلقون من قاعدة أيديولوجية ذات صلة بالعلمانية والوطنية، فالعلمانية والوطنية والديموقراطية تبنى كما تبنى الأمم والمدن، ولا تولد من عدم.
أما من يبحث عن الثورة السورية في تمرّد المهمّشين والفقراء والمضطهدين على نظام استبدادي كان يطبق على خناقهم طيلة أربعين عاماً فإنه سيجد الكثير الكثير. سيجد التوق إلى حياة جديدة يكون فيها هؤلاء أسياد أنفسهم، وسيجد الرغبة التي لا حدود لها في الانعتاق من الطغيان والهيمنة في ظل ظروف لا تحتمل.
يصحّ القول إن التمرّد على النظام السوري أنجب “داعش” و”النصرة” وأخواتهما، لكنه لا يكتمل من دون القول إن أولئك الذين يقاومون “داعش” اليوم أنجبهم التمرّد نفسه. ويصحّ القول إنه ليس ثمة سوريا ديموقراطية تلوح في الأفق، لكنه لا يكتمل إلا بالقول إن نظام الاستبداد في سوريا يتداعى، وان ثمة جديداً يولد من غبار المعارك وآلام الضحايا الذين يدفعون اليوم الأثمان الغالية لتمرّدهم الشجاع على نظام كان يهيمن على كل شيء في البلاد.
هؤلاء بالضبط، الذين سيقوا إلى حربٍ أهليةٍ مدمرةٍ رغم أنوفهم، والذين استباحت الصراعات الدولية وأدواتها، فضلاً عن الآلة العسكرية للنظام، أحياءهم وقراهم وحياتهم، هم من يجب البحث عن الثورة في قلوبهم وعقولهم وتوقهم لحياة أفضل. هناك لا تزال الثورة السورية مستمرةً رغم كل هذا الغبار والصراخ والآلام التي لا تطاق، ورغم التضليل والتنظيرات والجهاديين العابرين للحدود.
وحده الإنصاف لهذه الأرواح المتمردة يكفي للاحتفاء بالثورة السورية في ذكرى انطلاقتها الثالثة.
(دمشق)
السفير
