أيقونات هالة العبد الله
مها حسن
مولعةً بالمشهد المختبئ خلف “الغبش” والغبار والبقع، تترك لنا هالة العبد الله عدستها، لنحاول تنظيف أعيننا، ونخترق المشهد، إلى الطرف الآخر منه، لنراه، بشكل مختلف.
تكاد تكون تلك البقع السوداء من الشحوم والأوساخ العالقة على الزجاج، الذي يحيلنا إلى دلالات أبعد، من زجاج النوافذ القديمة، أو المرايا العتيقة، تكاد تكون تيمة هالة العبد الله الخفيّة.
تقدم هالة فيلمها بكثير من المراوغة الفنية والاختباء خلف الدلالات المفتوحة، تاركة للمشاهد ملئ الفراغات بالمعنى الذي يسجله هو، بمعنى آخر، لا تعترف هالة بمشاهد كسول، مسترخٍ على مقعده وسط الصالة، بل تحرّضه ليتشارك معها متعة إزالة البقعة والغشاوة عن العين، لرؤية المشهد صافياً، ولكن بعد جهد.
تحاول المخرجة، من باب منح وسيلة مساعدة، أن ترمّز للمشاهد هدفها من الفيلم، إذ تشرح، ببساطة، وبابتعاد عن المباشرة والتعليمية، وبتكثيف مخفّف وهادئ لا يقتحم عقل الأخر، أن تشرح فكرة الفيلم، للفنان الياس زيات، الذي يعتبر من أهمم مرممي الأيقونات وله أبحاث حول هذا الموضوع، إضافة لكونه رسام زيتي معروف وكان أستاذا في كلية الفنون الجميلة.
تبحث معه، في ورشته عن أيقونة مهترئة هالكة، راغبة في تصوير مراحل ترميميها، لتقدم لنا المشهد لاحقاً خاليا من العيوب.
لم تعثر العبد الله على ضالتها في الورشة، ولكنها توصل فكرتها، عبر مراقبة الكاميرا لبعض عمليات الترميم البسيطة التي نرى فيها طريقة إزالة اللون للحصول على اللون الحقيقي، مع ملاحظة أن الفيلم ليس بالألوان، إنما نسمع وصف الألوان ولا نراها إلا بالأبيض والأسود.
تقدم المخرجة أيقوناتها، ضاربة الزمن بعرض الحائط، لنرى أولى الأيقونات”فاديا اللاذقاني”، المحللة النفسية التي تعيش في فرنسا، والتي تتحدث عن تجربة السجن والمنفى، فنلتقي بفاديا من آخر التسجيل، في لقطة تكون هي الأولى في الظهور، حين تتساءل فاديا، إن كان ثمة مكان متقٍ في الشريط.
لا تقدم هالة أيقوناتها، ولا تشرح عنهن. ولكن معرفة بعضنا بهذه الشخوص، وورود أسماءها في آخر الفيلم، يشي بها.
الأيقونة الثانية، هي “رولا ركبي” التي تتحدث أيضا، وبشكل متقطع، من أول الفيلم إلى آخره، عن الفشل والنجاح والحب والسعادة والمغامرات … وكذلك الأمر مع الإيقونة الثالثة، راغدة عساف، الطبيبة النسائية.
ترصد هالة تحولات أيقوناتها النفسية والانفعالية، عبر “فضفضة” حميمية هادئة، لا تنظير فيها، ولا خطابات ولا شعارات… جلست ودية جمعتها بصديقاتها، فنقلت للمشاهد الحميمية ذاتها، وغمرت الشاشة بالحب والدمعة الحنونة والطيبة، ومراجعات الذات علنياً، حول مفاهيم إنسانية خالدة، عن النجاح والألم والفقدان وغيرها من القيم التي تعتركنا في مسيرتنا اليومية.
أجمل أيقونات هالة، أقولها بانحياز، ربما شعرت أيضا بانحياز هالة إليها، وأعتقد شبه جازمة، بانحياز أيقونات هالة الأخريات”فاديا ورولا وراغدة” لهذه الأيقونة الرائعة، والتي غادرت الحياة منذ فترة قريبة، كانت الأيقونة “المسنّة” ، والدة زوجها، حماتها، السيدة الأرمنية، التي ولدت لأم فقدت عائلتها في مذابح الأرمن، وعثر عليها رجل سوري، خبأها تحت عباءته، وهرب بها عابراً الحدود.
تتالى الحميمية في الفيلم، الذي لا يمكن حصره في نوع محدد، فهو مزيج من البيوغرافيا والتوثيقي في الوقت نفسه، وفيه قدر كبير من التجريبية.
التيمة الأولى للفيلم إذن هي تأمل الصورة الخارجية ، للأيقونة، أو أي عنصر آخر يحل محلها، الزجاج، المرآة، الستارة، المعتقلة السابقة، الأم، المرأة المغامرة… للذهاب إلى عمق المشهد، والعثور على النقطة الصافية، خلف ذلك السواد، أو الحزن، أو عناصره الدلالية المنزاحة عنه، والمختبئة خلف طبقات من صدأ أو بقع، تضلل الرؤية.
أما التيمة الثانية للفيلم، فهي شخصية الشاعرة دعد حداد، والتي تتكرر في الفيلم، قراءة جملتها الشعرية، وبقراءات متنوعة بصوت الشاعر نزيه أبو عفش، الجملة ذاتها التي حملت عنوان الفيلم: أنا التي تحمل الزهور إلى قبرها.
الضمير المتصل هنا، يعود حسب تحليل أبو عفش إلى المتحدث، أي إلى دعد، ولكن إحساساً غامضاً انتابني، وأنا أرقب الفيلم، أن هاله، ودون وعي منها ربما، كانت هي التي تحمل الزهور إلى قبر والدة يوسف عبد لكي، زوجها، مدركة بطريقة ما، تشبه طبقات الوعي المتراكمة، كالصدأ الذي تتحدث عنه وهي تشرح الفكرة لمرمم الإيقونات، أن هذه السيدة في طريقها إلى القبر. إذ أن والدة يوسف توفيت في السنة الحالية.
الأيقونة الأخيرة هنا إذن، كانت دعد حداد. وإن شعرت أنا كمشاهدة للفيلم، بأن ثمة شرخاً وقع بين طرفي الفيلم، أو فصلاً بين تيمتيه، إذ أفلحت هاله كثيرا في أيقوناتها الأربع ” فاديا،رولا،راغدة، أم يوسف”، ولكن الحديث عن دعد حداد، جاء مقتحماً قليلاً لصيغة الفيلم، وكأنه فيلم آخر، أو ملحق فيلم.
أكثر ما أعجبني شخصياً في الفيلم، هو اللقطات المُعادة، والمقدمة في سياقات متعددة داخل الفيلم.
المشهد الأول الذي ينفتح عليه الفيلم، السيدة الجالسة خلف طاولة، وسط حديقة منزل عربي، أو في أرض الدار كما يمكن وصفها، نرى ظهرها فقط، وهي تلعب الورق.. اللقطة ذاتها، تتم استعادتها، في سياقات لاحقة، لنرى هالة ذاتها، وفي كل استعادة، ثمة إضافة على اللقطة… تماماً وفق طريقة عمل العبد الله على الطبقات… طبقة تكشف طبقة تحتها.
وهنا تكمن الطبقة الأخيرة من الأيقونات، الطبقة اللاواعية ربما بحسب مدارس التحليل النفسي، حيث أفردت هاله جانباً لعائلتها في الفيلم، لزوجها الفنان التشكيلي يوسف عبد لكي، وابنتهما وعلاقتهما بها، وعلاقة كل منهما بالآخر، في المنفى، وفي البلد، وفي السجن، ليصل المشاهد، حسب فهمي للشريط، إلى الأيقونة النهائية، التي هي المخرجة ذاتها. أي أن هاله العبد الله، مرّت بجميع تلك الأيقونات، كما أرى، لتذهب إلى ذاتها، ولتتعرّف على ذاتها من خلال صديقاتها، وحماتها، وزوجها، وابنتها.. في العمق، يأتي هذا الفيلم، بمثابة نكش في الهوية الداخلية، ولأن العبد الله، امرأة تخجل من التعبير عن نفسها، والتحدث عن حالها، كما صرحت في إحدى الحوارات التي أُجريت معها، فإنها كانت بحاجة لهذا الفيلم، لتختبئ خلف تجارب صديقاتها، وتظهر من حين لآخر، بطريقة مخفّفة وبعيدة عن الاستعراض والنرجسية، بطيبة وحنان وأمومة وصدق.. إلا أنها في الوقت ذاته، تبحث عن مفرداتها، على لسان أيقوناتها الناطقات. تبقى الإجابة عن سؤال فيما لو وجدت هاله نفسها، أو أجابت عن تساؤلاتها، موجودة عند هاله فقط، وعليها هي فقط، الرد على هذا السؤال، وإن كنت أميل إلى أن هذا يتحقق تدريجياً في كل مرة تشاهد هاله فيها فيلمها، إذ أقرّت أثناء النقاش بعد العرض، أنها فكرت وهي تشاهد الفيلم، بالعودة إلى الرسائل التي كانت تتبادلها مع زوجها، وكانا مسجونان في السجن ذاته، حيث صادف وجود أخت يوسف معها أيضا في الزنزانة، وكانت هاله تستفيد من فرصة لقاء أخت يوسف بأخيها أثناء الزيارة العائلية، فتمرر رسائل الزوجين العاشقين.
جدير بالذكر أنه تم عرض الفيلم مؤخراً في باريس، في احتفالية لربيع السينما العربية، وفيلم هالة من إنتاجها الشخصي، ومن نصها، بمشاركة عمار البيك في التصوير والإخراج.
باريس