أيقونة تقف على رجليها/ سامر فرنجيّة
بعد خمسة أشهر من القتال، استعادت قوات بشار الأسد مدعومة من عناصر «حزب الله»، بلدة المليحة التي تشكّل مدخل الغوطة الشرقية للعاصمة السورية. في الأسبوع ذاته، برزت في بيروت ملصقات كتبت عليها عبارة «أعدكم بالنصر دائماً» والتي يفترض أن يكون سيد المقاومة خطّ كلماتها شخصياً. فبعد القلمون ويبرود والقصير والطفيل وعرسال، لم تنتهِ صلاحية عبارة «نهاية زمن الهزائم وبداية زمن الانتصارات»، وإنّ تغيرت ساحات المعارك وطبيعة الخصم فيها. ويبدو أنّ مفعول هذا الوعد يمتد إلى المستقبل القريب والبعيد.
فرداً على سؤال في مقابلة أجرتها معه جريدة «الأخبار» عما إذا كنا «سندخل الى القدس؟»، لم يتردّد السيد حسن نصرالله في الإجابة بأن لديه «يقيناً بذلك» (14/08/2014). النصر دائماً، هذا ما وعدنا به الرجل الذي لا يكذب أبداً، كما عرّف به أحد محاوريه.
النصر إذاً مضمون، ولو تغيّرت معالم المرحلة. فإلى جانب العدو المعتاد، أي إسرائيل، ظهر خصم جديد على الساحة، هو ما يسمّى الحالة التكفيرية، أو «داعش» للاختصار. وليس من الضروري تفسير او تحديد طبيعة الخطر الأول. فإسرائيل، في آخر المطاف، عدو عقلاني، وخطره مرتبط بمسار تاريخي، تندرج فيه مصالح ومنابع نفط وغاز، كما حلّل نصرالله العدوان المستمر على غزة. غير أنّ الخطر الثاني أعقد بعض الشيء، يحتاج إلى فهم وإدراك، والأهم إلى تصديق أنّ «هناك تهديداً وجودياً وحقيقياً يهددنا جميعاً». فهو، وفق نصرالله، «وحش» «فالت من عقاله»، «لا ضوابط لديه ولا عوائق أو حدود بالمعنى الفكري والأخلاقي والشرعي والإنساني». وما تتطلّبه المرحلة هو التصديق وليس النقاش أو المساءلة. فالظرف الوجودي الذي نعيشه «ليس وقت مراجعة»، وفقاً للسيد الذي «يحب الملوخية والمجدرة والسمك»، داعياً الجميع إلى وضع «كل البحث الفكري والاستراتيجي والتكتيكي والتنظير السياسي والفكري» جانباً لكي يحسم الميدان المعركة الجديدة.
ما لا يريد نصرالله مناقشته هو مسؤوليته وحزبه ومحوره عما آلت إليه الأمور. فالرواية القائلة إن تدخّل «حزب الله» في سورية مسؤول، وإن جزئياً، عما آلت إليه الأمور، نظرية مضحكة، ومن يريد البحث بها يمكنه أن «يصطفل»، وفق السيد الذي يشجّع الأرجنتين في كرة القدم. لقد جاء التدخّل مفروضاً من جانب الوحش، وإن كان سبق ظهوره. فالماضي يقرأ من حاضر «حزب الله»، والحاضر اليوم يفرض الكف عن نقاش هذه التفاصيل والوقوف وراء المقاومة في معركتها الجديدة. هذا هو العرض الطموح الذي يقدّمه اليوم السيد، وهو أقرب إلى تحدٍ مما هو إلى عرض.
من السهل مهاجمة نصرالله على تصوّره للأمور، وهذا ما فعله كثيرون من نقاده، القدامى والجدد. ومفاد اعتراضهم أنّ الحزب، من خلال اللعب بنار الطائفية، يرتكب جريمة بحقه وحق مناصريه قبل أعدائه، ويضع مصلحة مستقبله القريب في وجه وجوده على المدى البعيد ورصيده المقاوم. غير أنّ اعتراضاً كهذا يفترض مسافة عن الحدث قد تكون غير متاحة للسيد الذي «يعيش بين الناس». والأهم من هذا أنّ عرض نصرالله لا يتطلب موافقة الآخرين. فهو لم يحاول إقناع أحد. العرض مرهون بتحدي تغيير معالم الواقع، ما يجعله عرضاً غير قابل للرفض. أما المعترضون، فيمكن أن «يصطفلوا»، كونهم يعيشون في واقع بات منتهياً.
«حزب الله»، على عكس منافسيه ومنتقديه، يخلق واقعه، كما فعل دائماً، ليفرض ضرورة وجوده. منذ ٢٠٠٥، نجح الحزب في فرض واقع، مهما كان مأسوياً، على نحو يجعل عروضه المتتالية مستحيلة الرفض. فمنذ قراره الدفاع عن منظومة القتل في ٢٠٠٥، أو إدخال السلاح إلى الداخل اللبناني في أحداث ٧ أيار (مايو)، و «حزب الله» ينتج شروط استمراره من خلال عروض تضع الجميع أمام خيارين: إما الخراب وإما «حزب الله». يعيد هذا المخطط نفسه في سورية اليوم، حيث بات الحزب وسراياه المقاومة ضرورة وجودية لكل من يخاف من «داعش»، بغض النظر عن موقفهم من «حزب الله» ومسؤوليته السابقة. «حزب الله» الحل لمشكلة خلقها. يمكن مناقشة هذه المعادلة، غير أنّ المشكلة باتت هنا ولا مفرّ منها غير الحزب.
«يصبح شعورك بأنك تحب الكل وأنت مع الكل، تريد أن يكون الكل معك»، قد تبدو أمنية السيد هذه أقرب اليوم إلى التحقيق من أي وقت مضى. فنصرالله مع الكل والكل معه. وهذا عائد إلى أنّ الكل باتوا صنيعة واقع «حزب الله». قد يكون المستقبل البعيد لـ «حزب الله» أسود، غيرّ أنّه أكثر سواداً لمن يعارضه. وقد تكون رهاناته خاسرة، غير أنّ الواقع بات يؤكد حتميّتها. يمكن طمأنة النفس بأنّ التاريخ يصحح نفسه والواقع يفرض في آخر المطاف منطقه على مَن يحاول تغييره بالقوة، غير أنّ هذا الرهان قد يسقط في وجه عرض نصرالله الجديد.
وقد يكون الأخير «أيقونة معلّقة في السماء»، كما يرسمه الناس، لكنّه «واقف على رجليه» على أرض الواقع يتأقلم معه وينحت معالمه. واقعنا، إلى حد بعيد، صنيعة هذه الأيقونة، وقد أصبح الجميع، في الداخل اللبناني وربّما السوري، وبطريقة ما، صنيعة هذا الواقع. نصرالله لم يعد أيقونة، بل أصبح ما ترمز إليه الأيقونات.
الحياة