أين الأخلاق في مشاريع الإسلاميين؟/ ياسين الحاج صالح
في مقالة نشرت قبل أيام، يقول علي طالقاني عن “داعش” (الدولة الإسلامية في العراق والشام) إن “دين قادتها الفعليّ ودين أتباعها، بحكم التحشيد وشد عصب الجماعة بالضخ الإعلاميّ المسفّ، صار هو «الدولة» نفسها التي تحولت إلى عصبة يعلو الحفاظ عليها على أي أمر آخر” (“الحياة”، 28/2/2014). طالقاني، وهو متابع واسع الاطلاع على الشأن الإسلامي السوري، يسوق من الوقائع ما يسوغ حكمه، من ذلك تعذيب متفنن فائق الوحشية يتعرض له معتقلون ومخطوفون في سجونها، ومنه كذب و”براغماتية مبتذلة” ونأي بالنفس عن مواجهة النظام، ومنه رشوة وفساد. المضمر في الكلام أن هذه أفعال “دولة”، بل “عصابة مافيا” كما ورد في المقال، ولا دين فيها.
لكن هل مرجع الأمر فعلا هو مقتضيات “التحشيد وشد عصب الجماعة” على ما يقول الكاتب؟ وكيف يحصل أن يرتد الإسلام إلى أداة معدومة الشخصية في خدمة “دولة”، تؤسس هويتها ومبرر وجودها على خدمته؟
يثير نهج “داعش” المذهل سؤالا عن المضمون الأخلاقي لمشروع الإسلاميين الجهاديين، والإسلاميين عموما. يتساءل المرء: أين “مكارم الأخلاق” في إكراه النساء على نقاب يمحو شخصياتهن، وجلد من لا يتنقبن، وإلزامهن بخفض أصواتهن في الشوارع، وإغلاق محلات الحلاقة الرجالية، وإكراه الرجال على إرخاء لحاهم، ومنع التدخين والموسيقا؟ أين “الخير” في سوق الناس غصبا إلى الصلاة وإجبارهم على إغلاق المحلات التجارية في أوقاتها؟ أين “العدل” في تغييب مخطوفين عزل عن العالم دون معلومة عنهم لأهاليهم؟ ولماذا هذا المشروع طيب من وجهة نظر أي شخص متجرد، يحاول أن يقنع نفسه قبل غيره بأن هاهنا شيئ عادل أو كريم؟ بأي شيء هذا أطيب من أسوأ أوضاع إنسانية نعرفها؟ وأي مكان على كوكب الأرض ليس أكرم من هذا المثال الكابوسي؟ وإذا كان هذا هو نور “الدولة الإسلامية”، فماذا يكون ظلامها إذن؟ وإن كان هذا عدلها، فما مبلغ ظلمها؟ وماذا يكون الشر، إن كان هذا هو الخير؟ وإن كانت هذه هي “الدولة”، فمم تشكو عصابة من المجرمين وقطاع الطرق؟
لكن ما إن نتساءل عن وضع قضايا العدالة والأخلاق والكرامة الإنسانية، حتى نتبين أنه ليس هناك فوارق مهمة بين إسلاميين وإسلاميين، بين إخوان وسلفيين، وبين سلفيين دعويين وآخرين جهاديين، وبين “داعش” و”جبهة النصرة” و”الجبهة الإسلامية”. أساس هزال الفارق هو مفهوم تشريعي وأوامري للدين، يصادر على إطلاقية الأوامر والنواه الدينية في صيغها التشريعية الحرفية، دون انتباه إلى ما يفترض أنها مقاصد أخلاقي مؤسسة لها، أو محاولة إعادة تعريفها بحيث توافق مكارم الأخلاق التي يفترض أن الإسلام يتممها.
مُعفيا نفسه من التفكير، يقول الإسلامي النمطي: وهل هناك أحسن من شرع رب العالمين؟ يغلق على هذا النحو باب النقاش ويقمع التساؤل الأخلاقي عند جمهور متسع، يرى كل يوم أن أكثر مطبقي “شرع رب العالمين” المزعومين أناس جشعون وفاسدون وقساة. في هذا كله تبلغ “داعش” ذروة الشر، لكن ليس هناك إسلاميون معاصرون على الإطلاق يطرحون للتساؤل أولوية الدين على الأخلاق، والشريعة على الضمير، الأولوية التي لا تعرض “داعش”، والسلفيون عموما، غير اتساق أعلى من غيرهم في الالتزام بها. ليس هناك، قطيعة على هذا المستوى بين تيارات الإسلام السياسي، والإسلام العالِم عموما. لذلك يستطيع السلفي أن يفحم دوما اللاسلفي، والسلفي الجهادي أن يفحم السلفي الدعوي، وحين تدعو “داعش” إلى تكفير الديمقراطية والعلمانية والوطنية، و”الائتلاف” و”المجلس الوطني” وهيئة أركان الجيش الحر، وحكومات تركيا والسعودية والأردن وقطر والإمارات…، لا يستطيع خصومها الرد عليها بكيفية مقنعة، لأنهم يشاركونها أرضية فكرية، من أخص خصائصها منح الأولوية لأوامر “الشريعة” على مقتضيات الضمير (والسياسة).
هنا في الواقع مشكلتان يتخاذل التفكير الإسلامي المعاصر عن التعامل معهما. الأولى هي الإقرار بتمايز الأخلاق عن الدين، ووجوب إعادة تأسيس الدين على الأخلاق من أجل أن يمكن تسويغ الأوامر والنواهي الدينية. القول إن هذه أوامر إلهية متعالية على التبرير الأخلاقي يفتح أبوابا للاعتباط والعدوان والتسلط على الناس، وليس بابا لانشراح الصدر والعمران المادي والترقي الأخلاقي. الشيء الثاني هو الإقرار بأن محتوى الضمير إنساني وتاريخي وعالمي، وأن أساس الضمير الإنساني اليوم اليوم هو الحرية والمساواة، حرية كل فرد بما في ذلك الحرية الدينية، والمساواة بين جميع الناس، وبين الرجال والنساء. العمومية الإنسانية تنبني على ذلك، وخارجها يمكن أن نجد طوائف وجماعات بشرية معزولة، وتجمعات لمهووسين دينيين، لكن ليس آفاقا إنسانية مفتوحة ولا تعاونا بين بني البشر.
هذا المحتوى للضمير يوجب الفصل التام والنهائي بين الدين والإكراه. دون ذلك يمتنع قيام حياة أخلاقية للمسلمين، يشغل فيها الضمير الشخصي، أو “القلب” الذي يستفيته المرء، محل السلطة الخارجية للمفتي أو “الشرعي”.
قد يعترض إسلاميون على ذلك بأن هذا إدخال لقيم غريبة على قيمنا الإسلامية، ذات المصدر الإلهي. ولكن ينبغي للمرء أن يفقد حس البداهة حتى لا يرى أن تلك “القيم الغريبة” تحقق من العدالة والكرامة الإنسانية، فضلا عن الحرية أكثر بما لا يقاس من قيمنا المزعومة، وأن المزايدة باسم الباري أو باسم الأصالة لا تحل المشكلة، بخاصة ونحن نختبر بأنفسنا اليوم الأمداء الإجرامية التي يمكن أن يبلغها مدراء قيمنا المزعومون، بما في ذلك في صراعاتهم بين بعضهم.
وما يقال عن فقدان البداهة في الشأن الأخلاقي يمكن أن يقال عن الشأن الجمالي. يجب أن يكون الواحد منا أعمى حتى يرى أن الوجوه المتجهمة الكالحة، بلحى طويلة غير مشذبة وثياب قصيرة، أو أن النساء المدفونات بالكامل، مع وجوههن وأيديهن، تحت ثياب سوداء فضفاضة، أجمل من أي شيء. هذا دون قول شيء عن مجاهرة الجمال بالعداء، الجمال الإنساني، وجمال الإبداع البشري (الموسيقى، الرسم، النحت، الغناء…) وجمال العمران، بما في ذلك عمران المساجد. وإذا توفر خيار حر لأي كان، في مجتمعاتنا قبل غيرها، هل يختار حقا العيش في بيئات مقفرة ومتدهورة كهذه؟
ليس في التمسك بحرفية أحكام دينية معزولة عن “مكارم الأخلاق” و”عمران الأرض” ما يحيل حصرا إلى عاطفة إيمانية. إنه أقوى ارتباطا بطلب سلطة مطلقة لا تجادل ولا تنازع، سلطة تقتل من يعترض عليها باسم الله، يديرها حكام يؤلهون أنفسهم، فيما لا دين لهم غير “الدولة”، دولتهم، على ما يقول طالقاني.
لا ينتصب هذا المشروع القاتل في وجه حقوق الناس في الحرية وفي العدالة، وفي الجمال، بل وفي مواجهة حقهم في الدين ذاته، في أن يكون الدين حق الأفراد والجماعات، وليس حق أمة مجردة، أو حق طغاة متسلطين وسيفا في يدهم.
يطرح واقع اليوم تحديا كبيرا أمام المسلمين جميعا، وليس أمام الإسلاميين وحدهم. “داعش” تحقيق لممكن قوي في الفكر الإسلامي، وليست كائنا غريبا هبط من السماء. ما جعل هذا الممكن واقعا هو شروط اجتماعية وتاريخية يمكن تقصّيها. لكن إن لم تجر استجابة فعالة على تحدي إعادة بناء الدين على الأخلاق (والجمال)، فسيبقى الممكن الداعشي قابلا للتحقق، ولن نوغل في غير الانحطاط والشر.
الحياة