صفحات الثقافة

أين الثّلجُ أين الملاكُ أين النّهايةُ؟


علي جازو

أخبريني أيّتها العيونُ القتيلة،

يا وَهْجَاً كالدُّموع، وسِحْراً كالقَسْوة،

أخبري فمي وصدري، قلبي وذراعَيَّ،

أنّكِ حيّةٌ لأنّكِ حيّةٌ،

أنّ الهواءَ سيحمي نظراتِكِ الأخيرة!

وها نحنُ نتنفَّسُها مرتعشين؛

ها نحنُ نضمُّها مثل كنزٍ من وَفاء،

مثل نارٍ من ضَمير!

وأنتِ أيّتها الحافّةُ الملتهبةُ لمصيرنا القاتم،

يا أغنيةً لا تكتملُ، ككُلِّ نجاحٍ خائبٍ،

يا خفايا لا تصلُ قلبَ أحدٍ،

أخبري الجبالَ عن نحيبٍ كالهَمَسات،

أخبري الوديانَ عن خرابٍ كالنَّعيم!

***

هذا يومٌ لامتحانِ الرّبيع المرير،

هذا كمالُ الأسى.

يا عيونُ، يا مَفاتِنُ، يا حَسَراتٍ كالمرايا،

يا بريقَ الحنانِ المخنوق:

سننجو؛

لأنّ الطفلَ يترنّمُ بأغنيةِ شجاعةٍ مدهشة،

وهي ذي أمٌّ تُصَلّي في الظّلام:

كلماتُ دعائها تمتزجُ بضوءِ الصّباح.

أين البيوتُ، أين الأمسُ، أين اليوم

أين التّبْغُ، أين الله، أين الجحيم.

أين الضّفيرةُ، أين الدّكانُ، أين الفتى.

أين الحليبُ، أين الأعمى، أين الجريح.

أين النقْدُ، أين المعادنُ، أين الصّدى.

أين الوَرَاءُ، أين الأسى، أين الثّواب.

أين الضّبابُ، أين القلاعُ، أين التاريخ.

أين اللّمساتُ، أين الهواءُ، أين الجديد.

أين الشّعاع، أين الآمالُ، أين الأوقات.

أين الحلُّ، أين الرقيقُ، أين العيون.

أين الرّيحُ، أين الدّماءُ، أين الصّخور.

أين الشوارعُ، أين النّور، أين الحصى.

أين الدّموعُ، أين القلبُ، أين التّحية.

أين الصّفاتُ، أين المروجُ، أين الزوايا.

أين الفريقُ، أين الوليدُ، أين الرّشيد.

أين الطّحينُ، أين العبيرُ، أين السَّديد.

أين الكتابُ، أين الصّوتُ، أين الوجوه.

أين الماءُ، أين البرْقُ، أين التراب.

أين المدى، أين الفجرُ، أين القصْفُ.

أين الدّواءُ، أين الحُبُّ، أين الكراسي.

أين الآهاتُ، أين الزّهورُ، أين الصديق.

أين البيوتُ، أين الأمسُ، أين اليوم.

أين الثّلجُ، أين الملاكُ، أين النّهاية.

تعالَ وانظرْ. هيّا، هيّا، هيّا!

دعاياتٌ، دعاياتٌ، دعايات،

إعلاناتٌ، إعلاناتٌ، إعلانات،

أخبارٌ، أخبارٌ، أخبار.

تعالَ وانظرْ، تعالَ واسمعْ:

هيّا، هيّا، هيّا، لا تفوِّتْ لحظةً.

إنهم يرمون الجثث في النهر،

إنهم يقصفون المشافي والأشجار.

عشرة وحوش يضربون بالهراوات رجلاً جريحاً.

تعالَ وانظرْ، هيّا، هيّا، هيّا.

إنهم يقتلعون الأظافر، يقطعون الكهرباء والمياه،

إنهم يضرمون النار في البساتين، في الغيوم.

إنهم يقذفون المدن، يفجّرون التلال.

تعالَ وانظرْ. هيّا، هيّا، هيّا.

دمّروا البيوتَ والأحياء، سحلوا الشوارع.

كان ثمة أطفالٌ يصرخون على أطفال مقتولين،

كان ثمة عجائز اسودّ الربُّ في عيونهم.

تعالَ وانظرْ، هيّا، هيّا، هيّا.

هاهم يجتمعون في القاهرة، في استانبول،

في الخليج، في باريس، في نيويورك الطاحنة،

هاهم يقرؤون، ويتبادلون التهم والرسائل.

تعالَ وانظرْ. هيّا، هيّا، هيّا.

لكن، من هناك سوى القتلة؟

سوى البرد، والإهانة، والخزي!

تعالَ وانظرْ. ضعْ يدكَ على قلبك.

لقد وثَّقوا الضحايا بالأرقام والأسماء،

ياهٍ! رائع، لا تنسَ،

وثَّقوهم بالأرقام والأسماء.

تعالَ وانظرْ. ضعْ يدكَ على فمك.

سوف يحوّلون خوفكَ أيضاً إلى رقم،

خوفكَ، واضطرابَ سيركَ وحيداً!

هاهم ينتظرونك ليختبروا مصيرَكَ الرقميّ.

أسرعْ، لا تبقَ جامداً. هيّا، هيّا، هيّا.

إلى حجرٍ، أفضّلُ أن يتركوني إلى حجرٍ،

أريد أن أبكي، أبكي وأبكي.

ليس لدي سوى الدموع.

لا تنظري إليّ، لا تنظري إليّ.

وهذا العشبُ الصغير، وهذه الزاويةُ الضيقة.

هما بيتي، هما رئتاي.

دعيني أتنفّس، دعيني أرى وجهي.

لا تنظري إليّ، لا تنظري إليّ.

سماواتٌ، سماواتٌ، سماوات.

قصفٌ، قصفٌ، قصف.

جبالٌ، جبالٌ، جبال.

تعالَ وانظرْ. هيّا، هيّا، هيّا.

حنينٌ، حنينٌ، حنين.

رأفةٌ، رأفةٌ، رأفة.

أهو المستحيلُ يسيلُ بين يديّ؟

دعيني أسقط، دعيني.

المستقبل

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى