أين يختبئ أدب الثورة السورية؟
خطيب بدلة
نعم.. يجدر بنا، ويحق لنا، بعد نحو سنتين من انطلاقة الثورة السورية المباركة، أن نسأل، أو نتساءل:
لماذا لم تظهر بوادر إنتاج أدبي سوري مواكب للثورة؟
وهل مثلُ هذا الأدب يُكتب الآن؟ وإذا كان يُكتب، لماذا لا يُنشر؟ ومتى سينشر؟
تتزاحمُ الأفكار في معرض الجواب عن هذا السؤال، ويجد المرءُ مضطراً لتنظيمها.. لذلك أقول:
أولاً- إنها ثورة حقيقية، ثورة كبرى، جاءت لتقطع سيرورة الاستبداد، ولتُجري تحولاتٍ نوعيةً كبرى في تركيبة المجتمع السوري الذي رزح، لما ينوف عن نصف قرن من الزمان، تحت وطأة الاستبداد، مرة بدعوى الشعور القومي والوحدة العربية، ومرة بذريعة المقاومة والممانعة، ومرة ثالثة تحت يافطة اليسارية، والعَلمانية، والتقدمية، ومقارعة الرجعية، وأذناب الاستعمار، والإمبريالية، والمشروع الصهيوني الاستيطاني المجرم.
ولأنها ثورة عظيمة إلى هذا الحد، فإن مواكبتها أدبياً تحتاج إلى مواهب أعظم منها، أو في حجمها على الأقل، ويبدو لي أن هذه المواهب ليست متوفرة في الأسواق السورية بكثرة.
(ملاحظة: اضمحلت مواهبُنا نحن السوريين، ربما، بسبب تعايشنا الطويل مع الاستبداد.. ولعل الخير سيطلع لنا، في المستقبل، من الأدباء الشباب الذين ثاروا على الظلم والاستبداد، وضحوا من أجل سوريا.. من يدري؟).
ثانياً- إن إلحاحنا على ضرورة مواكبة الأدب للثورة، يوماً بيوم، أو- كما تغني شادية – ثانية بثانية، يُدخلنا، شئنا ذلك أم أبيناه، في خانات «الأدب الثوري»، و«الأدب الشعبي»، و«الأدب الملتزم»، و«الأدب القومي»، و«الأدب التَوْعَوي»، و«الأدب التوجيهي»، و«الكلمة المقاتلة»، و«الكلمة الرصاصة»، و«الكلمة الخنجر» و«الكلمة الخندق».. إلى آخر ما هنالك من هذه المصطلحات الجدانوفية، البعثية الفارغة من أي مضمون إنساني.
ثالثاً- لقد أثبتت التجربة العملية، بما لا يدع مجالاً للريب، أن الأدب الذي يترافق مع الأحداث الجسام، ويُعْرَفُ باسم «أدب المناسبات»، يشبه ضوء الحُباحب الذي يتشكل وينطفئ في الوقت ذاته، بمعنى أنه لا نصيب له من الخلود.. وإننا لنستطيع أن نطرح سؤالاً عامراً بالتحدي، هو:
ما الذي بقي، الآن، في مطلع سنة 2013، من أدب النكبة (1948)؟ ومن أدب النكسة (1967)؟ ومن الشعر الذي قيل في مديح انقلاب البعث (1963)، والحركة التصحيحية (1970)، وحرب تشرين التحريرية (1973)؟
وَمَنْ مِنَ النقاد والمصنِّفين يذكر شيئاً ذا قيمة من شعر الانتفاضة الفلسطينية؟ ومن أشعار ثورة الحجارة، ومرثيات الطفل الشهيد محمد الدرة؟
وَمَنْذا الذي يحفظ بيتاً واحداً من المدائح الشعرية التي كيلت للمقاومة الفلسطينية واللبنانية وتحرير الجنوب وصمود حزب الله في الـ 2006؟ وما هي القيمة الفنية والفكرية لأشعار سليمان العيسى وصابر فلحوط وروايات سيادة العميد الركن محمد ابراهيم العلي التي لا يقل وزن الواحدة منها عن رطل إنكليزي؟
رابعاً- لقد تقدمَ «النظمُ»، في شعر المناسبات، على «الإبداع الشعري»، وغلب «التوليفُ»، في النثر، على «التأليف»، وتقدمت العواطفُ الآنية، السطحية، بشكل عام، على المشاعر الإنسانية العظيمة القادرة على تجاوز حدود الزمان والمكان.
أطلعني أحدُ النقاد، على أيام ثورة الحجارة (1987-1994)، على سر فني كنت أجهلُه، وهو أن «نسج» الشعر على منوال كلمة «حَجَرٌ» أمرٌ في غاية السهولة، لأن «حَجَرٌ» تأتي على وزن «فَعِلٌ»، فإذا صففتَ أربع نسخ من كلمة «حجرٌ» تحصل على مطلع قصيدة من بحر «المتدارَك»، ووقتها يمكنك أن تنتج قصيدة من صفحتين أو ثلاث، بحسب التيسير!
ثم قال متخابثاً: لو أن الانتفاضة كانت مسلحة يستخدم فيها الفلسطينيون الأر بي جي والبي تي إر كيف سيبدأ النظامون نظم قصائدهم؟ هل يمكن أن تبدأ على النحو الآتي:
بيتيئرٌّ بيتيئرٌّ بيتيئرُّ.. ويبدأ النهارُ كَرٌّ وفرُّ؟!!
خامساً- يجدر بنا، لأجل الإنصاف، أن نوضح أن النماذج الشعرية التي قيلت في القضايا القومية والوطنية ليست سيئة (كلها)، لا بل إن الموسيقار الكبير مرسيل خليفة استطاع أن يجد ضالته من القصائد العظيمة الصالحة للغناء عند عدد من الشعراء اللبنانيين والفلسطينيين، إضافة إلى شعر محمود درويش.
إن سر نجاح ما يسمى «القصيدة الوطنية» – برأينا المتواضع – يكمن في مقدرة المبدع على الارتفاع بالقصيدة من مستوى الحدث اليومي، إلى مستوى الشعر العظيم القادر على ملامسة الوجدان الإنساني.. وقد روي عن الشاعر الكبير محمود درويش أنه كان يغالب انفعاله بالأحداث الجسام التي تعصف بفلسطين والمنطقة العربية، ثم لا يتناولها إلا بعد مرور زمن طويل على تاريخ حدوثها.. خشية من أن تسيطر عليه، في خضم إبداع القصيدة، الانفعالاتُ العاطفية السطحية التي تستولي على النفس البشرية إبان مشاهدة الحدث، أو تلقي خبر عنه.
سادساً- ثمة نقطة سأوردها الآن، ربما تدخل في باب الاكتشافات الطريفة، المدهشة.. وهي أن شعراء المناسبات الذين اعتادوا على مديح الأنظمة الديكتاتورية، وتمسيح الجوخ للأشخاص المستبدين الذين عُرفوا باسم (القادة التاريخيين)، ونظم القصائد التي تشيد بفتوحاتهم وانتصاراتهم الإعلامية الكاذبة، الذين كانوا يغطون على ضحالة مواهبهم بالكتابة عن القضايا القومية والوطنية الأثيرة لدى الشعب،.. هؤلاء لم يخرجوا – من حسن الحظ – مع الثورة، وظلوا لاطئين يأملون بأن ينجح الديكتاتور في قمع ثورة الشعب عسى أن تعود لبضاعتهم الكاسدة أمجادُها الغابرة.
سابعاً- لقد أوجدت الثورةُ السورية، بزعمي، أدباً جديداً، يضاهيها من حيث الرفعة والأهمية، ولقد قام أدباءٌ معروفون من قبل، وأدباء جدد، بنشر مقطوعات من إنتاجهم على الفايسبوك وغيره من المواقع الإلكترونية، وثمة أدباء آخرون دائبون على تدوين كتب تتضمن إبداعات مختلفة مستوحاة من يوميات الثورة لا شك أنها – قصدي الإبداعات – ستنشر في كتب مهمة بعد انتصار الثورة.
(ملاحظة: ثمة صعوبات جمة في النشر الآن، وثمة أولوية للخبز والدواء وحليب الأطفال والإسمنت).
ثامناً- لنقرأ هذا النص الإبداعي للروائية سمر يزبك:
الشاب الصغير الذي وجه فوهة رشاشه إلى صدري، عندما عرف أني “علوية” وقف يكزّ أسنانه ويقول صارخاً: قتلتم أهلي، كل اخوتي البنات، وأمي، وعمي.
كنا في إحدى الجولات، وبرفقتي خمسة شبان، على حاجز للجيش الحر. كانت تلك اللحظة، التي شعرتُ فيها بالتصاق فوهة سوداء بصدري، تعني انشقاق الحياة، تمنيت لو أطلقَ الفتى النار. كنت بحاجة لهذا، أنا وليس هو. الصوت الذي سمعتُه وهو يحرك رشاشه، كان عذباً، ثم أصوات رشاشات الشباب، الذين وجهوا رشاشاتهم إلى صدره، وهم يصيحون به.
أعرف أني امراة جبانة، لأني سمعت طرقات قلبي، وشعرت أن حلقي سينفجر، لكني بقيت أحدق به. هو يحدق بي، قلت له: إن كان هذا يكفيك لحقن الدم، فافعل ما تراه مناسباً.
هي دقائق خاطفة. مرت بسرعة والشباب يشرحون له أنه لا يجب أن تزر وازرة وزر أخرى، وأن القانون سيأخذ مجراه عندما يسقط النظام، وأن العلويين أخوتهم، وأن هنالك شبيحة من كل الطوائف والأديان!
رمى رشاشه على الأرض، وصار يتمتم بعبارات غير مفهومة، وأقسمُ أني سمعت نشيجه. حينها قلت الجملة التي كنت اتحفظ عليها منذ بداية الثورة: يلعن روحك يا حافظ ويلعن روحك يا بشار…يلعن الساعة التي عرفتْ فيها سوريا بشعبها الطيب عائلتكم المجرمة!
وهذا مقطع من قصيدة طويلة للشاعر ياسر الأطرش، استمدها الشاعر من موقف تعرض له رجل سوري، إذ رفسه عنصر المخابرات وقال له: حيوان.. فصاح بملء فمه: أنا إنسان ماني حيوان.
أنا إنسانْ ..
ولي بيتٌ ولي عنوانْ ..
ولي بابٌ يحنُّ إلى ضحى كفي
لنمسح عبرة النسيانْ ..
ولي أحجارُ ضيعتنا.. شوارعها.. تفاصيلُ الخطى الأولى.. ثمارُ الليل.. شاي الفحمِ.. سلة عمريَ الصغرى.. وذاكرتي
ولي أمي.. وكفُّ أبي.. ليَ الحب الذي زرعوه في رئتي
فأنبتَ زهرة العصيانْ
أنا إنسانْ.. ولي وطني.. وأهلي كلهم مثلي..
هباب الحقدِ لم يلغِ الصدى الممتد في شريان تاريخي
وما زال الدمُ السوريُّ يجري في عروق الأرضِ
يسقي وردةَ الأحزانْ..
وأخيراً.. هذا فصل من مخطوط كتاب لكاتب هذه السطور أنجزتُه خلال الثورة:
*كفرومة.. الأسابيع الأولى
في بدايات الثورة، اجتاح الجيش العربي السوري الباسل معظم القرى المحيطة بمدينة معرة النعمان، وبضمنها قرية “كفرومة”.. ونزل العسكر في أهل القرية قتلاً وتدميراً وحرقاً.
وبعد أن حقق الجيشُ نصراً مؤزراً على الناس العُزَّل، شعر (بعضُ) الجنود الأوباش (ليس كل الجنود أوباشاً، بالطبع) بالنشوة، وشرعوا يضربون بالعصي على جنبات ناقلات الجنود ويصيحون بصوت واحد: أبو حافظ.. أبو حافظ.. أبو حافظ..
وفجأة لمح جنديٌّ (وبشٌ) امرأةً فلاحة مسنة تعمل في حقلها بجانب الطريق، فصرخ بالسائق:
– وقف وقف.. وقف لنشوف الحجة ونسألها كم سؤال.
وقال لها بلغة متعالية، عامرة بالاحتقار:
– شو حجة؟ لسه بدكن حرية؟
فقالت له المرأة بجدية تامة:
– أنت غلطان يا ابني، أهل المعرة بدهم حرية.. نحن أهل “كفرومة” نريد إسقاط النظام فقط!.
(كاتب سوري)