صفحات العالم

أين يقف الإسلاميون السوريون؟


د. وحيد عبد المجيد

هناك معايير عدة لتصنيف الإسلاميين العرب المنتمين إلى جماعة “الإخوان المسلمين”. ومن هذه المعايير الموقع الجغرافي الذي لا يكفي وحده أساساً للتصنيف والتفسير، لكنه قد يفيد في فهم التباين بين توجهات أحزاب “الإخوان” وجماعاتهم وتنظيماتهم. فليس صعباً ملاحظة أن “الإخوان” ومن ينتمون إلى تيارهم في بلاد المغرب العربي أكثر انفتاحاً وتقدماً مقارنة بأقرانهم في الجناح الآخر من العالم العربي والذي يبدأ في مصر ويشمل منطقة المشرق العربي. ويشير هذا الاختلاف إلى تباين في بيئة المجتمعات التي تعمل فيها هذه الجماعات، وليس فقط إلى تباين موازين القوى بين المحافظين والمنفتحين داخل الجماعات نفسها.

وظهر هذا الاختلاف في طريقة تعاطي كل من “حزب النهضة” التونسي وجماعة “الإخوان” المصرية وحزبها (الحرية والعدالة) مع مسألة الدستور الجديد منذ بداية المرحلة الانتقالية في كل من البلدين.

وتبدو حركة مجتمع السلم “حمس” التي تمثل “الإخوان” في الجزائر، و”حزب العدالة والتنمية” الذي ينتمي إلى تيارهم في المغرب، أقرب في توجهاتهما إلى “النهضة” منه إلى “لحرية والعدالة” أو”الجماعة الأم” في مصر وحركة “الإخوان” وحزبها في الأردن (جبهة العمل الإسلامي) وتنظيم “الإخوان” الفلسطيني كما تعبر عنه حركة “حماس”.

ويذكر متابعو الحركات الإسلامية في العالم العربي الجدل الذي أثير في أوائل تسعينيات القرن الماضي عندما اتخذت حركة “حمس” موقفاً واضحاً وقوياً لمصلحة الاستقرار والتهدئة عندما انقلب الجيش على نتائج الجولة الأولى للانتخابات البرلمانية التي حققت “الجبهة الإسلامية للإنقاذ” فيها فوزاً كان يؤهلها للصعود إلى السلطة، حيث رفضت “حمس” الانزلاق إلى العنف الذي تبنته الاتجاهات المتطرفة في “الجبهة” رداً على إلغاء الانتخابات. وجعلها هذا الموقف في الصف نفسه مع النظام الذي كانت تعارضه، لكنها غلَّبت المصلحة الوطنية في لحظة حاسمة من تاريخ البلاد.

وتعرضت “حمس” حينئذ لانتقادات حادة من معظم تنظيمات “الإخوان” وجماعاتهم في الجناح الآخر للعالم العربي. ولم يكن بعض قادة “الإخوان” السوريين بمنأى عن الحملات التي تعرضت لها حركة “حمس” وزعيمها الراحل محفوظ نحناح الذي تحمل هجوماً عنيفاً من بعض “إخوانه” في المشرق العربي.

ومع ذلك بدا “الإخوان” السوريون أكثر حذراً في معالجة مسألة تعاون أقرانهم في الجزائر مع نظام الحكم ضد إسلاميين آخرين كانوا قاب قوسين أو أدنى من السلطة في بداية “غزوة انتخابية” حققوا فيها تقدماً كبيراً.

والحال أن السؤال عن توجهات “الإخوان” السوريين ومدى انفتاحهم أو انغلاقهم، واعتدالهم أو تشددهم، أثير في مناسبات عدة أخرى خلال العقدين الأخيرين. وهو مُثارٌ الآن مجدداً بمناسبة “وثيقة العهد والميثاق” التي أصدروها في 25 مارس الماضي. فقد أصدروا هذه الوثيقة في لحظة فارقة في تاريخ سوريا، سعياً إلى طمأنة شعبها بمختلف مكوناته، والمجتمع الدولي، بشأن توجهاتهم في حالة حدوث تغيير في نظام الأسد. لذلك حفلت بجملة من الالتزامات يمكن اختصارها في أربعة رئيسية: أولها “الدولة المدنية الحديثة”. وهذه عبارة لا يرفضها “الإخوان” في مصر وبلاد أخرى في الجناح الشرقي للعالم العربي، لكنهم لا يستحسنون كلمة “مدنية” ويراعون موقف القوى السلفية الصاعدة التي ترفضها وتظنها مرادفة للعلمانية.

والالتزام الثاني هو “دستور مدني منبثق من إرادة السوريين وقائم على التوافق الوطني ويحمي الحقوق الأساسية للأفراد والجماعات ويضمن التمثيل العادل لكل مكونات المجتمع”. وهذا التزام تعهدت به جماعة “الإخوان” في مصر وحزبها وتضمنته “وثيقة التحالف الديمقراطي” التي وقعاها مع نحو ثلاثين حزباً من اتجاهات مختلفة في يوليو 2011، لكنهم فتحوا الباب للتشكيك فيه بعد اتفاقهم مع “حزب النور” السلفي وحده على تشكيل الجمعية التأسيسية للدستور بطريقة أفقدتها القدر المعقول من التوافق العام وأثارت أزمة حادة قبل صدور حكم قضائي بوقف عملها ومن ثم السعي إلى إيجاد بديل عنها.

أما الالتزام الثالث فهو دولة ديمقراطية تعددية تداولية، ودولة مواطنة ومساواة، حيث “المواطنة هي مناط الحقوق والواجبات”. وثمة مبدأ رابع مهم أيضاً هو “تساوي الرجال والنساء في الكفاءة والأهلية وتمتع المرأة بالحقوق كاملة”. وهذان مبدءان تقبلهما تنظيمات “الإخوان” وجماعاتهم في مصر والأردن وفلسطين ولبنان، لكن بحذر حيناً وبتحفظ حيناً آخر، خصوصاً فيما يتعلق بحق المرأة في “الولاية العليا”، التي يرى إسلاميو المغرب العربي أنها محسومة في عصر الدولة الوطنية.

والسؤال المحوري الذي تثيره وثيقة “إخوان” سوريا الجديدة هو عن موقعهم اليوم على خريطة الإسلاميين العرب، وهل يمكن اعتبار هذه الوثيقة مؤشراً على أنهم يقتربون من إسلاميي المغرب العربي الأكثر انفتاحاً وتقدماً. الجواب ليس سهلاً رغم أن هذه ليست الوثيقة الأولى من نوعها التي تلفت الانتباه إلى شيء في تفكير “الإخوان” السوريين يختلف عن أقرانهم في مصر وقد يجعلهم أقرب إلى إسلاميي المغرب العربي.

فقد سبق أن أصدر “إخوان” سوريا في مايو 2001 “ميثاق الشرف الوطني” لمواكبة ما بدا وقتها بداية تحول أُطلق عليه “ربيع دمشق”. وقبيل تبدد الأمل نهائياً في ذلك “الربيع” الذي تحول سراباً، قدم “الإخوان” السوريون وثيقة أخرى عام 2004 أسموها “المشروع السياسي لسوريا المستقبل”، أعادوا فيها إنتاج ما جاء في سابقتها، لكن مع شيء من التأصيل الشرعي.

ولا تختلف الوثيقة الأخيرة الصادرة قبل أيام عن هاتين الوثيقتين إلا في ديباجتها وطريقة صياغتها اللتين توحيان بسعي حثيث إلى محاولة طمأنة الأقليات الدينية والعرقية. والحال أن “إخوان” سوريا يحاولون منذ أكثر من عقد تقديم أنفسهم في صورة مختلفة عن “إخوانهم” في مصر والمشرق العربي، خصوصاً وأن بعض هؤلاء كانوا حلفاء للنظام السوري (حركة “حماس”) أو مدافعين أشداء عنه (إخوان الأردن وحزبهم) تحت شعار دعم المقاومة والممانعة، أو مساندين له عن بُعد (إخوان مصر). كما يسعون إلى إزالة الصورة السلبية التي رُسمت لهم خلال مرحلة الصدام العنيف مع السلطة في ثمانينيات القرن الماضي.

وقد حققوا تقدماً في هذا الاتجاه، لكن معضلتهم أنه ليست هناك في السياسة وثائق تحمل ضمانات الالتزام بها، وأن نجاح أي تيار في تحسين صورته يتوقف على استعداد الآخرين للاقتناع والاطمئنان. لذلك سيظل على “الإخوان” السوريين بذل جهد على الأرض عبر التواصل والحوار والعمل المشترك، لإقناع الأقليات، بأنهم لن يسعوا إلى تغيير مقومات الدولة والمجتمع، ولن يفرضوا مشروعهم الإسلامي بالإرغام أو باستخدام دكتاتورية الأغلبية، وأنهم سيحترمون التنوع الاجتماعي والتعدد السياسي والحقوق والحريات العامة والخاصة.

الاتحاد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى