أيها المثقّف، كيف تنظر إلى صورتك فــي مرآة الحرب؟
«سنتان وتحترق الغابة». عنوان قصة الراحل سعيد حورانية التي صدرت عام 1964، تصلح اليوم وصفاً لحال سوريا. حرب طويلة يصعب معها إحصاء الندوب التي تركتها، الواقع قبيح، والإرهاب طاول الجميع. مثقفون وكتّاب وفنانون يحكون عن هذا الكابوس الطويل
خليل صويلح
دمشق | «سنتان وتحترق الغابة» صرخة أطلقها الراحل سعيد حورانية عنواناً لإحدى قصصه القديمة. بإمكاننا أن نستعير العنوان نفسه لوصف أحوال سوريا اليوم، وهي تعيش تحت وطأة الحريق. الشريط الطويل للخراب العمومي أرخى بظلاله على الأماكن والوجوه والأرواح. شهداء وقَتَلة، معتقلون ومخطوفون، أبطال وخونة، وألف حكاية وحكاية عن كوابيس مرتحلة من الجنوب إلى أقصى الشمال في فردوس البرابرة. يصعب إحصاء الندوب التي تركتها الحرب الدائرة منذ سنتين، كأن تنظر في المرآة صباحاً، ولا تتعرّف بدقة إلى ملامح وجهك. الرغوة تجرف في طريقها، أخاديد أوجاع الأمس. الاضطراب والشرود يخلّفان جرحاً صغيراً، بإلحاح شفرة الحلاقة. تحاول أن تكنس بقايا الكابوس الطويل بأحلام يقظة من دون جدوى. ذلك أنّ ما نحياه اليوم من ضروب الوحشية، سبقنا إليه الآخرون بعقود طويلة. نتسلّى بساعة رملية لتفتيت خريطة الوقت، عن طريق إحصاء عدد القتلى والمفقودين وأماكن الخراب.
كان الكاتب نيك كيستور في كتابه «تقرير عن المختفين» قد أنجز جانباً من المهمة: «بوسع المرء أن يتأمل فقط في الروايات عن الوحشية التي أخذها معهم آلاف القتلى إلى قبورهم غير المعلَّمة»، وأيضاً «أنا وحدي من أفلتَ كي أروي لك». هكذا أخلى الغانديون الأوائل أماكنهم لمصلحة الكاميكاز العابر للحدود. تحطمت تماثيل، ونهضت مقابر، ونشأت ثقافة الحواجز، وانتصر الافتراضي على الواقعي، في بلاد تتأرجح على حافة الهاوية، فيما يُنشئ الطارئون نصاً لا يشبههم، على سبيل الإقامة المؤقتة في النفير. طهاة محترفون في الوقت الضائع، وهواة صيد عند أطراف المستنقع. غرقى بأطواق نجاة لا تصلح لسباق المسافات الطويلة. باعة متجوّلون ببضاعة فقدت صلاحيتها، ولكن بدمغة مزوّرة. صور تذكارية ملتقطة على عجل، وسط الدمار، بما يكفي لتسويق سيرة ذاتية جديدة، تمحو آثام الأمس. علمانيون سابقون، ويساريون خائبون، يتدرّبون على جمالية الغيبيات لزوم الحالات الطارئة. صيارفة جدد يحصون أرباحهم من أنهار الدم المهدور بين الطرفين المتحاربين.
العنف المتبادل نص لم يكتبه أحد بعد. ثقافة الفزعة والنخوة والتخوين، تتحكّم بحروب القبائل، من دون بارقة أمل. العتمة أيضاً تستدعي ما يشبهها في الكتابة. أن تتلمّسَ كأعمى تضاريس الكيبورد على ضوء شمعة، وموسيقى صاخبة لتعطيل أصوات القذائف. عتمة وموسيقى وصوت مؤذّن، وذاكرة تستدرج على مهل روايات الآخرين عن مصائد الموت المخادعة.
نبيل سليمان *
قبل سنتين، كانت المرآة تمتلئ بوجه يغادر الستين، وما ناف عليها إلى صباه، فيخرج بصاحبه إلى أيٍ من ساحات اللاذقية: ساحة العلبي، أو ساحة أوغاريت، أو ساحة الشيخ ضاهر، ويتعثّر في ما لا يحصى من الوجوه الشابة، مثلما تصير مرآته مرايا تصدح: «سلْمية سلْميّة، لا إسلام ولا مسيحية، لا سنّية ولا علويّة، كلّنا وحدة وطنيّة».
الآن يصيب الوجه بهلعه المرآة. تتشقق بين كتائب الفاروق، وجبهة النصرة، ولواء أحرار الشام، والجيش الحر، والجيش العربي السوري، وجيش الدفاع الوطني، واللجان الشعبية، والشرطة، والأمن، الأمن، الأمن، إلى أن يصيب الوجه ببهمته المرآة، فتتناهبها العتمات بين القاهرة، وباريس، وجنيف، واستوكهولم، وروما، واسطنبول، والدوحة، وبغداد، وواشنطن، وموسكو، وطهران، وبكين. كما تتناهبها العتمات بين مؤتمر وندوة وحوار الطرشان ومجلس وطني وائتلاف ومنبر ديموقراطي ومجلس ثوري وحلف مدني، بل كما تتناهبها العتمات بين العلم الكردي الخفّاق وحده لا شريك له، والفحيح العلوي السني المسيحي الدرزي الشيعي، والرايات السوداء تتلاطم، والخلافة الإسلامية تجأر بوعدها ووعيدها، لكأنها هي الإمارة الإسلامية أو لكأنها هي ولاية الفقيه، فيا فقهاء العالم اتحدوا، ويا سليم بركات ارمهم فرادى وجماعات بعنوان روايتك على الأقلّ: «فقهاء الظلام».
ليس غريباً بعد كل هذا أن تصير المرآة، مرآة الظلام، فلا ضياء فيها، ولا سطوع لها، ولا تحديب ولا تقعير ولا تكسير ولا شعاع، بل هو وجهي الشائه في ظلمته، تكاد تأتي عليه البراميل المتفجرة والهاونات العشوائية وتكبيرات الذبّاحين ونفاق القادة الكبار والقادة الصغار ومن هم بين بين، بل يكاد يأتي على شائه الوجه والمرآة هؤلاء الكتاب والمثقفون الفضائيون الذين كانوا بالأمس علمانيين حتى النخاع، فإذا بهم يرتّلون: «إنّا إلى الطائفية وإلى العشائرية وإلى المناطقية لمنقلبون»، بل إنّا إلى دوائر الاستخبارات الروسية والأميركية والإيرانية والفرنسية و… الرجعى، والرجعى أيضاً إلى تجار السلاح والمهرّبين والأرصدة السرّية وعهر الفكر والثقافة والدين.
غير أن ما يبقي على البقية الباقية من وجه، ومن مرآة، هو البصيص الذي يتقد كما يخبو في المآقي النازحة إلى المدينة الرياضية هنا في اللاذقية، أو إلى مخيم الزعتري هناك. ومثل ذلك هو البصيص الذي يتقد كما يخبو في هذا الدمار الجليل، وفي هاته النعوات والصور التي تتداخل ملء جدران وجهي ومرآتي، وبذلك يتجدد حلمي بسوريا الحرّة: آتية لا ريب فيها، ولو كره الكارهون.
* روائي سوري
عمر الشيخ*
تبدو ملامح وجهي أكثر قسوةً وعنفاً عمّا سبق من عمري المهدور. الاعتناء بإظهار علامات تقدم السنّ تنذر باقتراب المعجزة وانتهاء الصراع… تنذر بنضوج الخاتمة. في حال حلقت ذقني، سأبدو طفلاً مراهقاً ولن يوفرني المسؤول عن جرّ الاحتياط إلى خدمة الحزن. لذلك سأهتم أكثر بشحوبي اليومي لأستقبل حواجز الطرقات بكل رضى وتسليم. قبل عامين من اليوم، كنت أرتدي قناعاً مناسباً لإخفاء حالات القلق والانتظار، وكنت أحاول أن أبدو أكبر من عمري بعقود، لأتجاوز عدّاد التعب نحو خلاصي من فوضى الروتين، والتدجين الاجتماعي الذي كان يمنهج حياتنا كشباب في مطلع العشرينيات. لكنني اليوم لا أجد قناعاً مناسباً لوجهي حتى أخرج للناس بجنونهم واختلاف آرائهم، وتطرّف بعضهم، ولامبالاة بعضهم الآخر، سيرفضني الجميع ما لم أخضع لشاشة مخيلاتهم وأحلامهم التي يعتبرونها حلاً مناسباً على قياسهم لختم الأحداث الدامية.
أراقب تنفّسي كيف يبدو؟ أسحب الشهيق من فمي، وأخرج الزفير من عينيّ، كي تتوازن أصوات القصف مع أذنيَّ وأنفي. أجرّب مرة أخرى أن أضع كمامةً على وجهي في حال زارتني إحدى القذائف الكيميائية الطائشة، فأعصر أنفاسي حتى أعدّ الثواني التي يمكن لعينيّ أن تسجلا المشهد الأخير، لعلي أهرب بعيداً، قبل أن تخرجا من محجريهما فيبدو وجهي كأنه جثة حرب بوسنية.
في البكاء، أحاول أن أشاهد، من دون تركيز، ما الذي يتساقط من اختناق فمي وجبيني، أبحث عن مرآة سريعة ولو كانت شاشة الهاتف المحمول السوداء مع قليل من الضوء لأرى هيجان وجهي في لحظة سُكرٍ! تبدو العاصمة بخرائطها وعقدها العسكرية والأمنية مشرحة بين تعرجات دموعي وذوبان نشيجي المكتوم.
الآن يزداد تسارع نضوجنا الفكري والمعرفي، يجب عليَّ الاهتمام بالمظهر والكلام وطريقة النظر إلى من أختلف معه بالرأي والثقافة. سأتعلم الدبلوماسية بعد التغيير الشامل في البلاد، وسأتأكد عند عودتي من خارج البيت أنّ ما كنت قد رأيته حقيقة وليس حلماً، فالخراب يرسل موجاته الجغرافية إلى جسدي، وأصدقائي يدققون عبر صورنا الجديدة على صفحات التواصل الاجتماعي، أننا ما زلنا نستطيع الضحك والنسيان. وهذا الخفقان الذي تتفاوت قوته في ملامحنا يتعلق ببقائنا على هذه الأرض حتى النهاية.
هكذا يعيدنا زلزال الأحداث إلى أدوارنا الحقيقية لنتفقد أجسادنا كل صباح، هل نجونا أم لا؟ نقفز بهلع نحو الضوء لنبحث عن وجوهنا، لنتأكد من أن الكوابيس والمدافع التي طاردتنا طوال الليل، ليست إلا وهماً عابراً للموتى. ونحن ما زلنا أحياء نسأل أنفسنا في المرآة: «متى ستتوقف ماكينة الرعب عن العبث بمستقبلنا؟».
ثمة ثقة مختلفة تشحنها في أعصابنا انتفاضة التغيير منذ عامين، رهانها الرابح أن تظل عيوننا مفتوحة جيداً على التفاصيل، وتبقى أصواتنا باتجاه الهدف مباشرةً، وألا نجري لها بروفات مع أنفسنا. ببساطة ننظر لوجوهنا في المرايا، فنشاهد العيون تعزف موسيقى الفرح المقبّل بالحرية والاستقرار والعدالة.
* شاعر سوري
ناصر حسين *
سنتان من سباق القتل يعيشهما وطن لم يتّسع لأبنائه. كان أهله يعتقدون أنه وطن كوني بامتياز، وفقاً للأكذوبة التي تعلمناها في الصغر: «لكل شخص وطنان، وطنه، وسوريا». الآن القاتل والقتيل سوريان… من كانا، في الأمس القريب «شركاء في الوطن».
القاتل واحد، وإن تعددت المواقع، أسياد المزرعة أحرقوا البلد، ومقاولو شركات معارضة «مغفلة»، يعتقد كل منهم أنه سيكون سيد «الجمهورية» أو «حارس المقبرة». ووراءهم كتّاب وشعراء ومفكرون، اختاروا الفايسبوك ميداناً لحرب العصابات، وتجّار دين بفتاوى حاسمة، وإعلاميون باختصاص مجرمي حرب، يجرون وراءهم ملايين التائهين بخيط غير مرئي.
هؤلاء لم ينزفوا حتى عرقاً. يديرون معاركهم بحقد مرعب، ودون أي مغامرة شخصية في معرفة ما يجري داخل الحدود. أحد عتاة المعارضة ممن يصرخ على الشاشات، مطالباً بالسلاح والتضحية من أجل الحرية، تمكّن باكراً من إنجاز انشقاق ابنه عن الجيش، ثم ربط خيله في باريس، ليدير المعركة من شوارع مدينة النور.
الواقع السوري قبيح والإرهاب طاول الجميع. وبعد ما يقارب عامين من الموت والخراب يتصاعد التطرف، وتتضخم على الأرض قوى إسلامية ظلامية مباركة من نخب ثقافية وسياسية تقدمية كما تقول عن نفسها.
رافي ساركي ــ سوريا
هكذا بات موتنا يُنجز على أيدي الطرفين. وإذا بنا أمام بلد مدمّر ومنكوب، وفضاء نموذجي للقتل والتهجير والخطف، وسرقة الآثار وتدميرها، ونهب المعامل وبيع معداتها لدول الجوار، وصولاً إلى سرقة أموال الإغاثة على أيدي بعض «نشطاء» المعارضة الذين باتوا نجوماً في هذا الشأن.
كيف لي أمام هذه الأهوال، أن أنجز لوحتي؟ في الواقع، لم أستطع أن أجمع بين الرعب والرسم. ولم أتمكّن من أن أكون بصفاء الرسام الذي كتب مرّة في يومياته: «اليوم أنجزتُ شيئاً مهماً. وضعت لمسة صفراء في المكان الصحيح». ما معنى أن تكون رساماً في زمن الحرب؟ في الواقع، لم أحلم يوماً بأن أكون رسّام آثار الحروب. ولا أرغب الانخراط في قماشة العنف بكل ألوان الطيف. ولطالما اعتبرت استثمار الحرب فناً مريضاً، وآمل ألا يتغيّر تعريفي له، وأن أجد موضوعاً آخر لأعمالي.
* تشكيلي سوري
ياسر أسكيف*
20/10/2010: كان اليوم الذي سلكت فيه وحيداً الطريق الفاتن: جبلة، اللاذقيّة، جسر الشغور، أريحا، سراقب، أبو الضهور، كولة البويدر، قاصداً مكان عملي الجديد الذي نُقلت إليه في مشروع سدّ تقرّر إنشاؤه وسمّي «مشروع سدّ المويلح. توقفت يومها في «سراقب» وتبضّعت ما يحتاج إليه أي مُقيم في مكان جديد.
بعدما سلكت هذا الطريق جيئةً وذهاباً مرّات عدّة، أرشدني زملاء العمل إلى طريق أقصر في الوصول. وبدأت بسلوك هذا الطريق: جبلة، نهر البارد، السقيلبيّة، قلعة المضيق، كفر نبودة، خان شيخون، معرّة النعمان، أبو الضهور، كولة البويدر.
وحين بات سلوك أيّ من الطريقين مغامرة، قد تكون نتيجتها فقدان الحياة، بعدما بات الاختطاف والاغتصاب والقتل على الهويّة أمراً شائعاً، بدأت أسلك طريقاً جديداً: جبلة، نهر البارد، محردة، حماه، معر شحور، الحمراء، قصر ابن وردان، المسلوخيّة، كولة البويدر. وحين صار هذا الطريق أشبه بغيره من انعدام للأمن والسلامة، وطاوله ما طاول غيره من تعامل على الهوية، بدأت بسلوك طريق طالما ذكّرني بالالتفاف حول «رأس الرجاء الصالح»، وهو الطريق: جبلة، بانياس، طرطوس، حمص، السلميّة، الصبّورة، ابن وردان، المسلوخية، كولة البويدر. ولمن لا يعرف جغرافيا هذه الأمكنة، فإن هذا الطريق يعبر أربع محافظات سورية، وصولاً إلى الخامسة: اللاذقية، طرطوس، حمص، حماه وحلب».
وبعدما هاجم «مسلّحون» المشروع الذي كنا نعمل فيه، وتم نهب ما يمكن نهبه، وحرق ما لا يمكن نقله بعد فرارنا نحن العاملين بناءً على تحذيرات أهل القرية القريبة من المشروع «كولة البويدر» عن قدوم المسلحين، لم تعد بي حاجة لطريق، أي طريق، إلى مشروع «سدّ المويلح». غير أن تلك الطرق التي سلكتها بمتعة لا تضاهى، باتت جراحاً لا تكفّ عن النزف والإيلام. بات كلّ مُنعطف فيها غصّة، وكلّ مُفترق حسرة. وتلك القرى والبلدات التي لا تنسى صارت ندوباً موجعة، لن يزيلها سوى المرور ثانية، كما مررت سابقاً من دون أن يوقفني أحدٌ ليسألني من أي كتيبة، أو كتاب جئت (كما كتب الشاعر عادل محمود يوماً) ومن دون أن يتوقف ذاك السائل وهو ينظر إلى هويتي الشخصيّة (إن كان له الحق في ذلك) عند «مكان الولادة» أو «مكان القيد» على أنه اختصار لهويتي، وبالتالي لانتمائي إلى الوطن السوري. عندها فقط سأرى وجهي. وجه المواطن ياسر محمد اسكيف حين أنظر في المرآة، وليس خريطة من ندوب، قرى وبلدات، أو من جراح، طرق ومعابر.
* ناقد سوري
رغم السواد الذي يفصلنا عن الرؤية
طلال معلا*
لطالما كانت اللوحة مرآتي منذ عقود، أقرأ فيها وجهي وأفكاري ومواقفي، بل أقرأ فيها أشعاري وذاكرتي وما أستشفّه من مستقبلي وحرارة دمي وقدرتي على الرؤية. فيها أتلمس انكساراتي مهما صغرت أو عظمت من دون أن تؤثر الغباشات على تحملي ووعيي بالتجاوز، ومن دون أن أفقد ما تحدثه اللوحة من إنجازات لها شهيقها وزفيرها الخاص الذي يجعلني مشدوداً إليها باستمرار.
ما يجعل اللوحة مرآتي في تصوير الوجوه في شعرية صمتها وشعائرية تحققها باعتبار كل هذه الوجوه وجهي، فلطالما تأملتها ككيان متوحد بفرديتي وعوالمي السرية التي ترفض التفسير أو إضفاء المؤثرات التي تتكئ عليها الوجوه وهي تتفرس مخترقة نترات الفضة كمادة مرآتية تخلق الانعكاس وتجتذب العقل وتلغي فعل العين في مواجهة انعكاسها ووظيفتها في توليد الحياة. هنا بالضبط تتجرأ اللوحة لتأخذ مكانة المرآة وتستبدل الوجود الانعكاسي المؤقت بوجود أزلي يصل إلى حدود تحدي الموت باعتبارها كائناً حياً لا تجمد موجوداته بمجرد رحيل الأشخاص من أمامه أو رحيل المشاعر مع غياب المعالم وأوهامها عن صقالة سطحها البارد.
لا تفاجئني المرايا وأنا أحاول أن أعقد المقارنات بينها وبيني، أو بين الضوء المنعكس في بريقها والضوء الداخلي لألوان لوحتي أو عمى وجوهي التواقة لرؤية بهائها القلبي وهي تملأ الكادر الإنساني بجاذبيتها المحيرة والمولّدة للدهشة. إنها الانقلاب على جنوني لاستثمار عمري في مراحله المختلفة ووجهي في تقلبه الفكري وتقلّب الأحوال حوله وكل ما يجعل الصدأ يمتد إلى البصيرة التي تأخذ من البصر حروفه ومن التشرد في أنحاء الخيال صدقية الخدعة الأزلية للمرايا التي تعيش في بلاهات الفراغ ما دمنا نقصيها عن أعماق بصائرنا وكل ما تستبدله من أقنعة لوجهنا في مواجهة حقيقته.
ما زلت حتى اليوم أحدّق في لوحتي على أنها مرآتي التي أستسلم لها بوداعة وتراني أكثر وأعمق مما أراها. تتنفسني وتثبت خطواتي في رحلة باتت تنزع من بين أصابعي ريشي وألواني، لقد كان وما زال الوجه الإنساني الجزء الأساس في لوحتي منذ السبعينيات وهي الفترة التي تذكّرني بما يجري اليوم من قساوة تعبيرية وتشويه درامي يعكس نبض وصورة المتحوّلات. في المرآة، نحاول ألا نرى صورنا مبتعدين عما تقوله عيوننا. لا نريد أن نرى ما نفكر به، أو ما يؤثر فينا لبشاعته. في اللوحة الأسنان مطبقة، أفواه بلا شفاه مكممة ومغلقة، والتدقيق في هذه التفاصيل هو جزء من العنف الذي نتهرّب من رؤيته في المرآة. عنف مركب نمارسه ويمارس علينا.
العجز سمة المتأملين سحناتهم المهزومة في مرايا الحاضر، المهزومون هم الذين نرى أقفيتهم في المرايا، إنّهم الذين يديرون ظهورهم للصورة نائين بوجوههم في غياهب الصمت عن كل قيمة إنسانية. وفي النهاية، فالكل يسمع صوتي ولا يأبهون لذاك الأخرس المنعكس في المرآة. لا شك في أنّ المنعكس في لوحتي هو الغياب الفادح للفعل في ملامح الوجوه، إلا أنّ ذلك لا ينفي أنها الشاهد على ما يحدث حولنا وعلى الصورة الداخلية للممسوسين الذين لا يعلمون أنّ ما يرونه في مراياهم لا يراهم، رغم أنّه يشبههم في كل شيء.
ليس من المنطق أن تختبر المرآة في كل مواجهة لها، لكن هذا مطلوب في مواجهة اللوحة وعماء بياضها لأن التجربة تختبر حياتها وتختبر إمكاناتها للمضيّ في المغامرة المعرفية، وهو ما أحاول أن أقوم به اليوم رغم السواد الذي يفصلنا عن الرؤية.
* تشكيلي وناقد سوري
الأخبار