صفحات المستقبلياسين السويحة

أيّ دستور؟!


ياسين السويحة

لا يجدي النقاش في حيثيات وتفاصيل مسودّة الدستور الجديد نفعاً إﻻ إن كان القصد الأوحد هو تمييع المسألة السوريّة واﻻلتفاف على حجم وعمق ما يجري في البلاد عن طريق سجالات فقهيّة وقانونيّة حول مدّة الولاية الرئاسيّة وعدد مرّات التجديد الممكن لها، أو ذلك الصّد والرّد حول تحديد دين رئيس الدولة أم ﻻ. بالطبع سيكون لإلغاء المادة الثامنة نصيبٌ وافر من المديح، ففجأة نكتشف أن شرور الدنيا كلها آتية من حزب البعث أولاً، وكأن لحزب البعث وجود فعلي كحزب ذو كيان وإرادة وقرار مستقل عن الشبكة السياسيّة- الأمنيّة لهرم السلطة، وثانياً من “فريق اقتصادي” يهاجمه السادة المعارضون “تحت سقف الوطن” بشراسةٍ توحي وكأن هذا الفريق قد عيّن نفسه بنفسه، أو عيّنه صندوق النقد الدولي مباشرة، ولم يكن عليه من يأمره ويسيّره ويغطّي خطواته التدميريّة المنهجية للاقتصاد سياسياً وأمنياً، وما هو أهم: يستفيد منه.

أضعف الإيمان في ما يمكن أن يُقال في مسودّة الدستور الجديد هو أنها تصدر بشكل ﻻ ديمقراطي بالمطلق، فلا يمكن توقّع أن تنفرج أزمة ناتجة عن ديكتاتوريّة القرار السياسي (ضمن أسبابٍ أخرى كثيرة) في البلاد بصدور دستورٍ كُتب من قبل لجنة منبثقة بشكل ديكتاتوري عن السلطة الدكتاتوريّة، وسيعرض على اﻻستفتاء بعد أيامٍ قليلة، دون أي شفافيّة وأيّ ضمانات وأيّ رقابة من جهات مستقلّة ذات مصداقيّة. أي، بكلمة واحدة، على طريقة استفتاءات الـ 99,9%.

إن الطريق المنطقي، بالحدّ الأدنى، لبناء دستورٍ جديد للبلاد يجب أن يتم بعد تسلّم حكومة وحدة وطنيّة حقيقيّة شؤون البلاد لفترة انتقاليّة يتم خلالها تنظيم انتخابات ديمقراطيّة ونزيهة وخاضعة للرقابة الشديدة من قبل عدّة جهات مستقلة تنبثق عنها جمعيّة تأسيسيّة. هذه الجمعيّة التأسيسيّة هي وحدها المخوّلة بصياغة دستور جديد للبلاد يمكن أن يُقال عنه أنه ديمقراطي. ما عدا ذلك قد يصلح لمآرب ومصالح متنوّعة، لكن لن يكون ديمقراطياً، ويشمل هذا الكلام الدعوات قليلة المسؤوليّة التي تطالب المجلس الوطني بصياغة دستور “مؤقت” في الخارج. هذا غير مقبول إطلاقاً. المعارضة ككل مطالبة ببرنامج مرحلي واضح لعملها ليس إﻻ. ما عدا ذلك، كلّ ما عدا ذلك، هو قرار الشعب السوري بأكمله، وﻻ يحق لأحدٍ غير منتخب بشكل ديمقراطي ونزيه أن يتخذه.

كما قلتُ أعلاه، هذا الرفض لسبب إجرائي هو أضعف الإيمان، لكنه ليس إﻻ مجرد تفصيل جزئي أمام حجم المشكلة الأكبر، والتي تتعدّى، بمراحل، حجم المسألة الدستوريّة أو الوضع القانوني للبلاد. أتحدّث عن السّلطة التي كتبت هذا الدستور، وهي نفسها، بنفس العقليّة وبنفس التسلّط والدكتاتوريّة والقمعيّة، التي كتبت الدستور الحالي للبلاد، والذي خرقته ألف مرّة ومرّة رغم أنها فصّلته على مقاسها المتسلّط وعلى مقاس أدوات ممارستها القمعيّة. ﻻ شك أن البلاد بحاجة إلى تحديث عميق وجذري في دستورها وقوانينها، لكن هذه نتيجة للمشكلة وليست سبباً لها. يشبه الدفاع عن إمكانيات نصٍ دستوريّ جديد في إحداث تغيير في الوضع السوري تلك الصرخات الهستيريّة المطالبة بإعادة فرض حالة الطوارئ، وكأن رفع هذه الحالة قيّد من بطش السلطة وقمعها لكل من يجرؤ على معارضتها، وكأن هذه السلطة كانت أصلاً تحترم أسس وأعراف حالة الطوارئ ذاتها عندما كانت مطبّقة، وانتقلت لتحترم القوانين النافذة في ظلّ رفعها.

سوريا محكومة من قبل كيان سياسي- اقتصادي- أمني أخطبوطي النفوذ والمصالح والعلاقات، كيان اختطف الدولة، كلّ الدولة، بمؤسساتها واقتصادها وإداراتها وجيشها وأجهزة أمنها، ونصب نفسه ليس فوق الدستور والقوانين فقط، بل فوق الدولة ككل! لذلك كان الدستور القديم أصلاً حبراً على ورق، والجديد سيكون كذلك ما لم يتفكك هذا الكيان. غير المدرك لحجم هذه المعضلة مخطيء، والمتجاهل لحجمها عامداً والعامل على تحويل الأنظار عنها كمعضلة جوهرية وحيدة إلى تفاصيلٍ تخصّ نصاً دستورياً هنا و”حزمة قوانين” هناك انما هو شريك لهذا الكيان في جرائمه. شريك تبلغ به الوقاحة حدّاً سمّى فيه الخط الأحمرالممنوع، الذي تبدأ عنده مصالح هذا الكيان، بـ “سقف الوطن”.

http://www.syriangavroche.com/

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى