صفحات الرأي

أي تغيير يعد به «ثوار التكفير»؟/ ماجد الشّيخ *

تواجـه ما يفتـرض أنها ثورات الربيـع الـعربي، عقبات كؤوداً أسـاسيـة، تتـمثـل في قـوى ديـنـية، لا يـمكـنها أن تـكون مع أهـداف التغييـر المنشودة من قـبل مجتـمعاتـنا وشعوبنا. فما بالنا حين تتصدر أمثال هذه القوى قيادة الثورات، وتعمل على استبعاد وإقصاء كامل القوى التي فجرت تلك الثورات، ولا تريد سـوى إظهار ذاتها فـي مـرآة واقع ينحو نحو تغيـير مـعاكس للواقع، ومجاف للـســياسـة، ومضاد ومعاد للثـورة. إنه انقـلاب يعـادي الثورة وأهـداف التغيير، بل هم يعادون المجتمع كونه بالأساس لم يكن مجتمعهم، كما هو بالأصـل لم يكن مـجتمع نظام الدولة، إنه المادة التي يتوسلها الجـمـيع لإعـادة تكوينها وصوغها في ما يخدم أهداف القوة المهيمنة، قمعاً وغلبة، بالقوة وبالإخضاع، بعنف يفوق كل الحدود، وبإجرام مشرعن، إما بالقانون، وإما بالشرع والشريعة الآنية المزعومة.

هكذا… بين استبداد الأنظمة السلطوية الحاكمة، واستبداد قوى التدين السلطوي، وجرائم أحكامها الجائرة، باسم الشرع والشريعة، وشرائعها الخاصة بكل أمير من أمرائها، أو أي فرد من أفرادها، يستحيل أن يتحقق أيّ من أهداف ثورات الربيع العربي ومآلاتها. ذلك أن قوى تنشدّ دوماً إلى الماضي وتريد على الدوام أن تستعيد ماضيها كي يتحكم في مستقبلها، لا يمكنها أن تكون خليقة بثورة تنحو نحو المستقبل، أو أن تكون مع أهداف تغييرية تنشدها مجتمعاتنا وشعوبنا المقهورة، الواقعة بين استبدادين أحلاهما مر وعلقم، وما يجري في سورية اليوم ينحو نحو إجرام مبالغ فيه، إلى حد استبعاد واعتقال وقتل واغتيال من قاموا بالثورة، ويقومون بها لتحقيق مآلات تغييرية، تنشدها قوى المجتمع المدني والأهلي، ممن تتغاير أهدافها وأهداف تلك القوى المضادة للتغيير، وقبلاً للثورة، فيما هي أكثر ابتعاداً عن الدولة، وعن ابتناء مجتمع مدني فيها، رائده التنوير والحداثة والاستنهاض الدائم.

تلك قمة مآسي ثورات ربيع، تحولت بفضل القمع والعنف غير العادي للنظام وشبيحة تحالفاته من جهة، ومن جهة أخرى فاشية القوى الدينية التكفيرية التي سيطرت على مقاليد الثورة، وتؤهل ذاتها للهيمنة على مقاليد الدولة – أياً تكن مواصفات تلك الدولة – تحولت إلى مقتلة المقاتل التي قل نظيرها في الطور التاريخي الراهن، مما كان يفترض أنها ثورات من الشعب وللشعب ولأجل الشعب، وإذ بها تنزاح انزياحاً عنيفاً وتنجرف، بل وتنحرف انحرافاً مشهوداً نحو معاداة الشعب، حتى بات الشعب السوري – على سبيل المثل – يواجه تشكيلة من الأعداء، بدءاً من النظام وشبيحته والمتحالفين معه، مروراً بتيارات التكفير الديني والتخوين السياسي، وصولاً إلى تلك القوى الإقليمية والدولية التي دخلت حلبة مذهبة الصراع وكأنها قوى أصيلة في تمذهبها، حتى صارت المذهبة تختزل أعز المصالح للقوى الداخلة في الصراع، بصرف النظر عن حجم تلك المصالح وأوزانها، فالتحالفات القائمة اليوم على جبهتي الصراع، تختزل انحيازات مذهبية واضحة، باتت تبتعد ابتعاداً واضحاً، بل فاضحاً عن السياسة والعقلانية والأساليب السوية لمعالجة الصراعات، خصوصاً تلك التي تتعلق بالسلطة، وبرؤية كل طرف تلك السلطة الاستملاكية «الإلهية» أو «الربانية» التي تسمو فوق البشر والمجتمعات والدول.

فأي حل سياسي يعد به «جنيف – 2»، في ظل هذا التشرذم والتفتيت الذي أضحت قوى المعارضة تعيشه كأمر واقع، لا يقدم لها أي ميزة أو امتياز تتفوق فيه على نظام بات يستجمع قواه وشبكة تحالفاته بفعالية أكبر من السابق، لا سيما وجبهة القوى التكفيرية لا تقدم لقوى المعارضة السياسية والمدنية الحقيقية، سوى الحط من شأنها، وإبعادها عن مواقع التأثير والفعالية، بحيث باتت القوى الداعمة المعارضة تخشى عملياً وفعلياً سيطرة «القواعد» التكفيرية على منظومات التسليح التي درجت على تقديمها لقوى في المعارضة وصفت بكونها سياسية ومعتدلة، وها هي تنزاح انزياحاً عنيفاً، حتى تلك التي احتواها يوماً «الجيش السوري الحر» أضحت عرضة للتصفية وللاستيلاء على مخازن التسليح لديه، في خطوة تنذر بحرب تصفيات واغتيالات ضد كل أولئك الذين لا يتوافقون مع «قواعد» التكفير، الماضية في حسم هيمنتها على جسم الثورة التي تحولت إلى حروب اقتتال بين «الإخوة»، وفي الغد ستمضي المقاتل اليومية، لتتحول إلى «طبق يومي» يستفيد منه النظام ومحالفيه، وبنتيجته يجرى تسميم صفوف المعارضة، وكل مخالفي النظام الذين خرجوا لتغييره والثورة عليه، وإذ بهم يسقطون صرعى الهيمنة والاستكلاب على سلطة لم ولن تتضح معالمها، طالما استمر وتواصل صراع التكفيريين على أيّها «الفرقة الناجية»!

هكذا، يُترك الشـعب السوري لمصيره، المصير الذي بات النظام ومحالفوه من شبيحته من الميليشيات و «الدول» من جهة، و «داعش» وأخواتها من تلك الأقل أو الأكثر تطرفاً وإرهاباً وتكفيرية من جهة أخرى، يرسمون بل يترسمون مصيراً أسود، ليس للشعب السوري فقط، بل وللمجتمعات العربية جميعها التي باتت تفتقد بكل تأكيد ربيعَها الثوري الذي اجتاحته قوى «خريف إسلاموية»، لا تعد إلا بالدمار لمجتمعات وشعوب ودول تتوق لحكم مدني رشيد وحديث، لا يـصـعد بتـطلـعات الـناس وأحـلامـها نـحو الأعالي، فيما هو على الأرض، لا يجيد سوى الذبح بحق الآخر، بل كل الآخرين الذين لا يتبعون ملة التكفير وأمراءها الجوف.

* كاتب فلسطيني

الحياة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى