أي هوية عربية اليوم؟/ كمال عبد اللطيف
تكشف التحوُّلات التي تجري اليوم في أغلب المجتمعات العربية، غياب الحديث عن مشروع الوحدة العربية، وتُعَدُّ استفتاءات استقلال بعض الأقاليم والجهات، وقد دخلت مراحل التنفيذ في بعض الأقطار العربية، أكبر دليل على الخيبات التي لحقت حلم الوحدة العربية في حاضرنا. صحيح أن بعض التنظيمات السياسية وبعض منظمات المجتمع المدني القومية، ما تزال تلوِّح في بعض المناسبات، ببيانات تُذَكِّر فيها بمزايا المشروع القومي والوحدة العربية، إلا أن صدى هذه البيانات مشرقاً ومغرباً لا يُذْكَر، ولا نجد له تأثيراً فعلياً في المجال السياسي العربي.
لقد سَكَتَ العرب منذ ما يزيد عن أكثر من عِقْدٍ من الزمن، عن الحدود الدنيا من التنسيق التي كانت بينهم، فما بالك بالمشروع القومي والوحدة العربية، هذا دون أن نتحدث عن صوَّر الصراع المعلنة بينهم.. إن الانفجارات التي شملت أغلب مجتمعاتهم، خلال السنوات الماضية بدرجات من التفاوت، جعلت موضوع الوحدة العربية من الموضوعات التي يصعب الحديث عنها وسط أجواء التوتُّر والتناقُض، التي تطفوا أسهمها وتتفاقم هنا وهناك.
إن إنتعاش الإثنيات العِرْقِيَّة والطائفية بمختلف أشكالها وألوانها، أصبح يحول دون عمليات البحث عن سُبُل تحقيق الطموح العربي في الاندماج والوحدة والتقدُّم. فقد أصبح مشروع الوحدة العربية اليوم أمام تحديات جديدة، الأمر الذي يدفعنا إلى التساؤل عن مصير العروبة في مجتمعات وأنظمة تعاني من وَيْلاَت الانهيارات المتتالية.
لا نستطيع القول رغم كل مظاهر الخراب وصوَّر التهجير، التي تملأ اليوم كثيراً من الحواضر والأرياف العربية، أن زمن المشروع القومي العربي انتهى أو استنفذ مشروعيته، بالصيغة التي يتحدث بها البعض عن نهاية الأوطان والقوميات زمن العولمة. يمكن أن نتحدث دون حرج، عن نهاية المشاريع والتجارب السياسية القومية التي تبلورت في الفكر العربي خلال القرن الماضي، الأمر الذي يقضي بضرورة البحث عن سُبُل تجاوز مبادئها ومقدماتها ومفاهيمها، من أجل إعادة بناء مفهوم العروبة والمشروع الوحدوي في ضوء متغيِّرات الحاضر وأسئلته وتحدياته. وإذا كان من المؤكد أن بيننا اليوم مجموعات سياسية وثقافية، تتغنَّى بطريقة تقليدية بالإيديولوجية القومية، كما تبلورت ونشأت في منتصف القرن الماضي، إلاَّ أننا نعتبر أن هذا الغناء الموسمي والجنائزي، لا يمكن التَّعْوِيل عليه في مسألة إعادة الاعتبار للعروبة ورهاناتها.
نفترض أن عروبة المستقبل كما نتصوَّرُها، تقتضي أولاً وقبل كل شيء، مواجهة جملة من التحديات، التي أفرزتها المتغيرات التي عرفتها مجتمعاتنا، ومن أبرز هذه التحديات:
1 – تصفية تَرِكَة المشروع القومي التقليدي
أتصوَّر أنه لا يمكننا أن نَبْنِيَ مُجَدَّداً عروبتنا، إلاَّ بنقد مُخَلَّفات المشروع الوحدوي، كما تصوَّرته الأجيال قبلنا، منذ منتصف القرن العشرين وإلى يومنا هذا. ونتصَوَّر أن التصفية المقصودة هنا، تحصل بإنجاز قراءات جديدة لحدود ومحدودية الخيار الإيديولوجي القومي في تاريخنا. كما تحصل بنقد مفاهيمه ومراجعة المبادئ التي اعتمدها طيلة النصف الثاني من القرن العشرين.
تتأسَّس مشروعية هذه القراءة، انطلاقاً من التوجهات الرامية إلى مراجعة التجربة في ضوء مستجدات الفكر والتاريخ في عالم مُتَغَيِّر. وهي تستدعي من الفاعلين السياسيين مواكبة المتغيِّرات الحاصلة والتعلم من دروسها. ومن أجل توضيح هذه المسألة، نتوقف أمام بعض المقدمات المركزية في الإيديولوجيا القومية التقليدية، حيث تصوَّر أغلب مؤسِّسي المشروع القومي العربي، أن الدعوة إلى وحدة الأمة تعني العودة إلى وحْدَة الأصل المفقود والضائع، وذلك ارتكازاً إلى مواقف تُقِرُّ بأن الوحدة هي الأصل، في حين أن الوحدة كما نتصوَّرها هي مشروع مستقبلي، يتطلع إليه الوحدويون العرب، ونموذجها المأمول، لا علاقة له بالماضي.
ويمكن أن نضيف أيضاً، أن أهمية هذا الموقف تبرز في كَوْن خيار العروبة نشأ في المشرق العربي، كمسعى سياسي يروم تجاوُز النزعة العثمانية وتطوَّر بعد ذلك في الهلال الخصيب، لمواجهة نزوعات التتريك، ثم استوى بعد ذلك في أدبيات البعث والناصرية كَمُكَوِّن من مكوِّنات حركة التحرُّر العربي. الأمر الذي يبرز بوضوح صوَّر ارتباطه وتفاعُلِه مع المغيِّرات التي واكبها، وحاول التجاوُب مع تحدياتها وأسئلتها. ونتصوَّر أن إعادة بنائه اليوم، لن تتم إلا في إطار محاولات جديدة في التفاعل مع متغيِّرات الراهن العربي.
2 – التفاعُل الإيجابي والنقدي مع التحوُّلات الحاصلة في العالم
تقتضي تصفية تَرِكَة المشروع القومي، التعامُل الإيجابي والنقدي في الآن نفسه، مع المتغيِّرات الجارية في مجتمعاتنا وفي العالم، وذلك من أجل إعادة بناء أفق العروبة المستقبلي، في ضوء المكاسب الكبرى للثقافة المعاصرة ومكاسب التحديث السياسي، كما تبلورت وتطورت في الفكر والتاريخ المعاصرين، حيث يحضر المشروع الديمقراطي كآلية لضبط التوافقات، وتركيب مشاريع النهوض والتقدُّم. وضمن هذا السياق، نتصوَّر أن عروبة المستقبل، تضع من بين أولوياتها التخلُّص من الأساطير الكبرى في الخطاب القومي والمشروع الوحدوي، نقصد بذلك أساطير الدم والعِرق (شجرة النسب) والقبيلة، ذلك أنه يصعب علينا اليوم، بعد كل الأحداث التي عرفتها بلداننا، منذ انهيار الاتحاد السوﭭﻴﺎتي وتَفَكُّك المعسكر الاشتراكي، وما خلَّفته حروب الخليج في تسعينيات القرن الماضي، من جروح وندوب في أجسامنا وثقافتنا، إضافة إلى تداعيات الثورات التي اندلعت منذ 2011 في كثير من البلدان العربية، نقول يصعب علينا، أن نُواصِل التفكير بالمفاهيم والمبائ التي بناها الخطاب القومي التقليدي.
اشتغل القوميون العرب بكثير من الحرص على التفاعل مع المتغيِّرات التي واكبت الملامح الكبرى لزمانهم، ونفترض أن يعمل العروبيون اليوم على إعادة بناء العروبة التي نتطلَّعُ إليها كفضاء ثقافي سياسي مُتَعَدِّد ومُنْفَتِح، في تفاعُل وتجاوُب مع متغيِّرات حاضرنا. وضمن هذا الأفق بالذات، نشير إلى أن أي جماعة ودون أن تكون بالضرورة أمة بالدَّلالات والصيغ التي استأنسنا بها في خطابات الوحدويين العرب، عبارة عن كيان اصطناعي، تُرَتِّبُه جملة من العوامل السياسية والاقتصادية والثقافية، بصورة إرادية عقلانية. إنَّه عبارة عن مسألة تاريخية، أي مسألة تَكَوُّن ما يفتأ يتكوَّن.. والعربي اليوم في تصوُّرِنا هو من يريد أن يكون عربياً، والجماعة عبارة عن تكوين تاريخي نسبي، يصنعه دعاة الوحدة عندما يكون بإمكانهم ذلك.
نفترض أن يُواكِب الوعي العروبي الجديد في ثقافتنا متغيرات عالمنا، ويحاول استعيعابها بمنطق المصلحة والعقل، وذلك من أجل بناء أسُس ومقدِّمات جديدة نستلهم روحها من الإخفاقات التي لحقت خيارنا القومي في القرن الماضي. ذلك أن عروبة اليوم والغد مدعوة للتسلح والتعلم من التحوُّلات المعرفية الكبرى، التي أنتجتها ثورات المعرفة وتقنياتها في عالمنا. أما مدخلها المناسب فيتمثَّل في الإصلاح السياسي القائم على مقوِّمات ومبادئ التحديث السياسي، ذلك أن كثيراً من أعطاب مشروعنا القومي ترجع في البداية والنهاية إلى عدم مقدرة النخب والمؤسسات السياسية والأحزاب وتنظيمات المجتمع المدني العربية، على منح الإصلاح السياسي الأولوية المطلوبة، بحكم أنه يتيح إمكانية بناء مجتمع جديد، مجتمع يكون قادراً على الانخراط في بناء العروبة ومتطلباتها.
ضفة ثالثة