إئتلافان فاشلان فوق سماء سوريا/ دلال البزري
بات لنا ائتلافان عسكريان عالميان “ضد الإرهاب” في سوريا:
الأول عمره سنة، قام بناء على طلب الرئيس العراقي نوري المالكي، في آب من العام 2014، من أوباما للتدخل في سماوات العراق لضرب “داعش”، بعد صدمة تأسيسه لـ”الدولة الإسلامية” على يد ابو بكر البغدادي؛ توسَّع هذا التدخل، بعد ذلك، ليمتدّ إلى سوريا، ويترك العراق لصيغة أخرى من هذه الحرب. إذن ائتلاف سبّاق، يضم إلى صفوفه ستين دولة، عدّت ضرباته الجوية على العراق وسوريا بالآلاف، يقوده رئيس أميركي رخو و”مثقف”، يتغلب همه في تحقيق “إنجازات” للتاريخ، على ادعائه بالصدق والأمانة، ولا يتوانى عن الغش في التقارير والمعلومات الإستخبارية التي تعدها أجهزته التجسسية الجبارة؛ ومن شأن هذا الغش، كما يأمل، التقليل من خطر الإرهاب الداعشي والتعظيم من “الإنتصارات الأميركية” عليه، وذلك خدمة لإستراتيجيته الغامضة، القائمة على محاربة لـ”داعش” ، وعدم الإقتراب من بشار الأسد.
الائتلاف الثاني يقوده بوتين، بناء على طلب رسمي أيضاً، ولكن من “الرئيس السوري” هذه المرة. يقوده رئيس روسي “قوي”، لا يتوقف عن إظهار عضلاته، حتى لو كان مرتديا الطقم الرسمي، ومخاطبا جموع رؤساء العالم من منبر الأمم المتحدة. يكذب بوتين، مثل أوباما، ولكن حول شأن آخر، إذ يجزم، من المنبر نفسه، بأن كل الذين يحملون سلاحاً ضد بشار الأسد “إرهابيون”، وسيكونوا هدفاً لضربات طائرته. هذا الائتلاف يضم ثلاث دول، هي العراق وسوريا وإيران (وميليشياتها على الأرض)، فشلت حتى الآن، كما فشل أوباما في الائتلاف الأول؛ ولكنها الآن بقيادة جديدة، روسية، سلاحها هو بعد أميركا والصين أقوى سلاح في العالم، فوق سلاحها النووي المساوي للأميركي منه. وبوتين يقصد تماما ما يقول: باشَر ضرباته الجوية على المواقع التي يقصدها، وسرّبت آلته الاعلامية بأنه بصدد الإعداد لعمليات برية… أما استراتيجيته، الأكثر منطقية، الأكثر وحشية ووضوحا من الإستراتيجية الأميركية المائعة المتأنِّقة، فتقوم على محاربة المعارضة السورية المسلحة كلها، والإبقاء على بشار الأسد.
في منطق ديناميكيات القوة، يبدو وكأن الائتلاف الثاني، بقيادة بوتين، جاء ليملأ الفراغ الذي تركه فشل الائتلاف الأول، بقيادة أوباما؛ ولكنه أيضاً، يملأ فراغا آخر، تركه جورج بوش، غازي العراق، منذ عقد من الزمن. قائد هذا الائتلاف الثاني، بوتين، بدا، وهو يخطب في الأمم المتحدة نفسها، كأن جسده يقول كل شيء: “حسنا أوباما! إذا كنت ترفض أن تكون بوش الثاني، غازي سوريا، فأنا جاهز، ومعي الكنيسة الأرثوذكسية، كما كان مع بوش وحي الحروب الصليبية”. الفراغ الذي تركته أميركا بفشلها، المقصود ربما، في بلد عائم في الفوضى المسلحة، يشكل “خطرا على البشرية كلها”… كان على شخص مثل بوتين، يمتلك القوة العسكرية والتأييد الداخلي، والاستراتيجية المرسومة، وكل دوافع الإنتقام من الغرب، أن يملأه، هذا الفراغ، ويقلب اللعبة.
فراغ آخر، هو فشل القيادة الإيرانية، بميليشياتها ومرتزقتها، وأموالها وبياض صفحتها الجديدة مع الغرب، في كسب حربها من أجل بشار الأسد. دخلنا في السنة الرابعة لأعمال هذه القيادة، لم تفلح خلالها إلا في التدمير والقتل، والكرّ والفرّ، والبيع والشراء، والتسلّل إلى أعماق ما تبقى من الدولة السورية.
وهو تسلل كان يعدّ سوريا، بدوره، لنوع آخر من الفراغ: فراغ سوريا نفسها من القيادة السورية؛ من جهة السلطة الرسمية، لم يعد بين أياديها أية مبادرة سياسية أو عسكرية أو ديبلوماسية تُذكر، اللهم معاندتها في الإبقاء على بشار الأسد، وظهور “مسؤوليها الرفيعين” بمظهر الدمى التي تحركها إرادات خارجة عن إرادتهم؛ إرادات لا تختبىء ولا تتجمّل. ثم فراغ سوريا من أهلها وممن يمثلهم، ممن لا يختلط في تكوينه التطرف الديني مع الثورة ضد بشار الأسد؛ فراغ من مشروع وطني سوري جامع، حتى ولو لم يكن له ترجمة عسكرية على الأرض؛ فراغ يسمح لأكاذيب أوباما وبوتين، الموصوفة، أن تمرّ مرور الكرام.
في سماء سوريا اليوم ائتلافان دوليان لمحاربة الإرهاب، اعضاؤهما أحرار طلقاء، يضربون ويفرون، أو يضربون ويبقون. هل كانت تقتضي مصلحة الشعب السوري الإبقاء على ائتلاف واحد؟ أم ان انضمام روسيا إلى اللعبة سوف يعجّل من صياغة حل سياسي؟ التجربة السابقة تعطي بعض الإجابات: “طالبان” الأفغانية، و”القاعدة”، إحدى صادرات “ثورتها”، مرّت على الأميركيين نكاية بالمحتلين السوفيات، في نهاية سبعينات القرن الماضي، ثم انقلبت على الأميركيين، في ثمانيناته، بعدما انسحب السوفيات مهزومين من أفغانستان. ومن يومها، والحركات الجهادية تتدفّق على العالم، مدعومة بالإسلامية الايرانية المنافِسة لها. اللاعبان انفسهما يلتقيان الآن في سوريا، ويتبارزان على الفوز بالقدر المرغوب من القرارات فيها، يتبارزان على مصلحتهما، وقد يصطدمان أيضاً. ولكنهما لن يتوفَّقا، كما لم يتوفَّقا سابقاً، إلا في زرع المزيد من الموت والخراب.
المدن