إبداعات سورية في روتردام
فرج بيرقدار
للإبداع صور كثيرة، ولكن الثورات هي الإبداع الأعلى، بدءاً من اكتظاظ الشوارع بأبالسة وملائكة الحرية، وانتهاء بالدماء المسالِمة التي لا تترك لأحد بالمعنى الأخلاقي إلا أن يقدِّسها.
هناك ما يمكن تسميته تسونامي سياسي بدأ من تونس إلى مصر التي ذادت عنه وزادته حرية، فانتقل إلى ليبيا والبحرين واليمن، ليصل إلى سوريا.
على هذه الأرضية العامة للأستاذ تسونامي المحترم، كان لكل شعب خصوصيته. وقد تكون الخصوصية الأبرز للشعب السوري، أن أطفاله، أطفال درعا خصوصاً، هم من اقتدح الشرارة التي طهَّرت وستطهِّر كل سهول سوريا، ليسجل التاريخ أول ثورة يقتدحها أطفال.
في ثنايا الإبداع الأعلى هناك إبداعات لا تنتهي، داخل سوريا وخارجها، من نكات وشعارات تجاورت فيها روح النكتة الحمصية خصوصاً مع أختها المصرية وأحياناً تجاوزتها.
داخل سوريا أغنى من خارجها بالطبع، ولكن كوني أعيش على نحو ما خارج سوريا، فسأترك إبداعات ما هو داخل سوريا لأهلي في الداخل، وأركز على إبداعات أهلي السوريين في الخارج.
منذ أيام رأيت علماً سورياً عملاقاً في باريس يتدلّى من على سطح قوس النصر. هذا إبداع سوري لم ولا ولن يخطر على بال النظام السوري.
بالطبع هناك إبداعات متنوعة فنية وأدبية وصحفية وإعلامية وسياسية قد يكون في طليعتها أغنية فناننا سميح شقير: يا حيف.
غير أني أرغب هنا في التوقف عند الإبداع الأشمل والأطول والأكثر تنوعاً للجالية السورية في هولندا.
شباب وصبايا سوريون تقدّموا بطلب إلى السلطات الهولندية في روتردام لإقامة اعتصام تضامني مع أحرار سوريا ، فمنحهم عمدة روتردام ذو الأصل المغربي ساحة مسقوفة لمدة ثلاثة أسابيع، أسموها بالعربية ساحة الحرية، وبالهولندية ساحة الياسمين.
الساحة ماكيت مصغَّر لميدان التحرير في القاهرة، خياماً ومناوبات للنوم في الخيام، وأنشطة فنية وأدبية وثقافية وسياسية هولندية وسورية، ومعارض رسم وبيانات بالعربية والهولندية.
كانت التغطية الإعلامية الهولندية في افتتاحية الاعتصام، ولا سيما التلفزيون والإذاعة، واسعة النطاق.
لعبت الأحزاب الهولندية اليسارية دوراً مهماً في دعم الاعتصام عبر مشاركة بعض كوادرها في أنشطته، كما عبر الدعم المادي والتقني والإعلامي.
كنت مدعواً للمشاركة في برنامجهم في أسبوعه الثالث، وعلمتُ هناك أن السلطات الهولندية منحت المعتصمين أسبوعاً رابعاً للاعتصام في ساحة الحرية.
أجرى المعتصمون أيضاً لقاءً على السكايب، معلناً على جمهور المعتصمين، ضمَّني والأصدقاء برهان غليون من فرنسا، وملاذ عمران من سوريا.. في الحقيقة كان وصل إلى لبنان، وآمل له أن يتمكن من مغادرة لبنان إلى بلد أكثر أمناً، وحسام القطلبي الذي كان حينها في أنطاليا،، وتعذّر للأسف اتصالهم بالمدوِّن السوري أحمد أبو الخير.
ندوات وحوارات ولقاءات نهاراً وليلاً.
تدريب ممتاز على الديموقراطية، بل بيان ديموقراطي بامتياز.
في ساحة الاعتصام تجلَّت سوريا بأجمل ما فيها، أعني تنوع ووحدة مكوناتها. شعرت هناك، أنا العربي، أني لست أقل كردية من الأكراد، ولا أقل مسيحية من المسيحيين، ولا أقل علوية من العلويين، ولا أقل إسماعيلية من الإسماعيليين، ولا أقل سورية من أي سوري هناك، وكذلك ليس أقل عروبة من العرب الذين تضامنوا مع أهلنا في تلك الساحة.
هناك، في تلك الساحة، أدركت أكثر من أي وقت مضى كم حاول النظام السوري خلال العقود الماضية تصحير حياة شعبنا، وكم استطاع السوريون الاحتفاظ بجذورهم غضة ونابضة بالحياة.
غير أن أكثر ما أثَّر بي في الأنشطة المعَدًَّة لليوم الذي وصلت فيه مسرحية إيمائية تصوِّر أو تلخِّص حكاية أطفال درعا الذين اعتقلوا بعد كتابتهم على الجدران شعارات رأوها على القنوات الفضائية فاعتُقِلوا وعُذِّبوا وانتُزِعت أظفارهم.
انتهت نشاطات وحوارات ذلك اليوم في الرابعة فجراً، حين بدأ المناوبون ترتيب أمورهم للنوم في الخيام المنصوبة والمطرزة بالأعلام السورية وصور بعض الشهداء وشعارات الثورة التي يرفعها الأهل في الداخل.
في اليوم التالي ذهبنا إلى أحد أكبر المهرجانات الأدبية والفنية في روتردام، مهرجان دنيا. دنيا هي اللفظة العربية التي نعرفها، وكان المهرجان دنيا بحق. وزَّعنا هناك مئات أو آلاف البيانات وجمعنا آلاف التواقيع لدعم الديموقراطية في سوريا.
شكراً يا شبابنا وصبايانا في هولندا. شكراً يا أصدقائي خالد ومجد ورياض وطاهر وزينون وآلاء وريدار وروش والآخرين على كل ما أبدعتموه.
وشكراً روتردام عمدةً ومدينة وأحزاباً مشاركة ومتضامنة.