إبن “السلمية” معقل العصاة والثوار عاش معارضاً ومات مرتين/ تهامة الجندي
لم يكن كاتبا معروفا مثل أخوته: سامي، علي، إنعام وعاصم، وهب نفسه للسياسة، وهي لم تجلب له الشهرة أو المجّد، أهدته الفقر، أدخلته السجون، رمته في المنافي، وعرّضته لحملات تشّهير وتعّتيم واسعة، مثله مثل كل معارضي نظام حافظ الأسد، وقد لا يعرفه اليوم غير من بقي حيا من مجايليه ومعاصريه الساسة السوريين أو الفلسطينيين، وحين فكرّتُ باستحضار سيرته على أوراقي، فتشتُ عن معلومات تخصّه على محركات البحث عبر الانترنت، وفي المراجع التي تؤرخ حياة سوريا السياسية والنقابية، لم أعثر على ما يستحق الذكر، وسنواتي بقربه كانت قليلة، لا تكفي لملء ندوب الذاكرة.
كيف يغيب اسمه، وهو الذي قضى حياته في قلب الحدث والخطر، مشغولا بالنضال السّري والعلني، من أجل قضية لم يُحسم أمرها بعد؟! ولماذا حين كان على قيد الحياة، كان جميع من التقيتهم من رجالات السياسة والفكر والثقافة، يتحدثون عنه بالود والتقدير؟ هل كانوا يتملقونني، ما حاجتهم إلى ذلك؟! أين ضاع دفتر مذكراته عن حراكه النقابي، وتأسيس الاتحاد العام لنقابات العمال في سوريا أواخر ستينات القرن الماضي؟! هل يُعقل أن تذهب حياته هدرا على هذا القدر من العبث؟ ما سر أبي خالد الجندي؟ سأكتب ما عرفته منه وعنه، ويقيني أني أفتح حلقة من حلقات التاريخ المغيّب، الذي تداوله السوريون شفاها بمنتهى السّرية والحذر.
أتخيله ببشرته الحنطية، عينيه الخضر النديتين، كأنهما على وشك البكاء، خديه الممتلئين الأحمرين، شاربه الطويل المعقوف إلى الأعلى، قامته الطويلة الممشوقة… صوره في شبابه، تشبه ممثلي هوليوود، وحين تقدم به العمر، لم يفقد جاذبيته، وأجزم أن ما من امرأة نظر إلى عينيها، لم تقع أسيرة عينيه… كان ودودا وسخيا مع حواء، يعاملها بدماثة واحترام، يطريها بعبارات ناعمة، لن تسمعها من الآخرين، وطوال حياتي معه، كنت شاهدة على نساء عشقّنه، وحاولّن الإيقاع به، منهنّ من كانت بعمري أو أصغر، ولا أبالغ إن قلت، معظم صديقاتي كنّ واقعات في هواه، وسحره الفطري على النساء، أصابه بأكثر من مقتل في سنوات حياته التي لم تتعدَّ السابعة والستين.
أذكره مفعما بالطاقة والحياة. متحدث لبق، واسع الإطلاع، حاذق الذكاء، خصب الخيال، حاضر البديهة، ابتسامته لا تفارق وجهه، إلا عند المحنّ العامة والهزائم الكبرى، عدا ذلك لن تراه مقطّبا، ولن تسمعه يشكو، إن مرض أو ضاقت به الدنيا، سوف يتعالى على حاله باقتباس عبارة أدبية أو فلسفية، بيت شعر، أو قول مأثور، للتعبير عن ألمه وسخطه: “أكثر من القرد ما مسخ الله”، “إن لم أحترق أنا، وتحترق أنت، كيف نخرج من الظلمات إلى النور؟” وضحكته الهادرة يميّزها أصدقاؤه من بعيد، ويأتون إليه مسلّمين “أبو سليمان، عرفناك من ضحكتك”، وأبو سليمان لقب لازمه منذ صغره، تيمنا بلقب خالد بن الوليد، مع أن أبي أطلق على ابنه وأخي، اسم شاعره المفضل طرفة بن العبد، الذي كان يحب من أبياته: “أنازلُ خيّلا من فوارسها الدهر/ وحيدا وما قولي كذا ومعي الصبر”.
طقوس يومه تبدأ بشرب الماء، ثم المشي لثلث ساعة في الهواء الطلق، بعدها يشرب قهوته ويدخن، يتابع الأخبار باهتمام من عدة مصادر، يشاركنا أعباء المنزل، قيّلولة الظهيرة لديه مقدّسة، ينهض منها على كأس المتّة، ومن ثمة يأتي دور المقهى. كتابه إلى جانبه طوال النهار، ودفتر يومياته قبل النوم، يجلس وراء مكتبه، يدوّن الأحداث الهامة، خواطره، أشعاره، غرامياته، يعد التقارير والمقالات السياسية، وإلى لغته العربية يجيد الإنكليزية والفرنسية والألمانية، ومع صحبته الممتعة، سوف ترتاد أحلى الأماكن، تلتقي أهم الشخصيات، تغتني معارفك، ويضج عقلك بعلامات الاستفهام.
يوم العشرين من تشرين الثاني عام 1997، حين علمّتُ بوفاته، شققت قميصي وصرخت لا… كان يوما فارقا في ذاكرة انكساراتي، فقدّتُ من كان يضمني إلى بعضي… أعيدُ رسم ملامحه، وأشعر بشوق حارق إليه، أود لو أزوره، أضع على قبره القرنفل الأحمر الذي يحب، أمرّر يدي على شاهدته، أقرأ حروفه وتمتماتي، أجلس بجواره، أحدثه عن بؤسي وثورتنا اليتيمة، وأبكي… أفعل ما يفعله الجميع حين يفقدون أحبتهم، لكني لا أعرف أين رفاته، مات بذبحته القلبية بعيدا عني في غزّة، أُقيمتْ له جنازة رسمية مهيبة، ودُفن في مقبرة الشهداء، المقبرة التي ما لبثت أن قُصفت ودُمرت، مات أبي مرتين، فقد مثواه الأخير، مثلما فقد مسّقط رأسه، السَّلمية التي كوتّه بنار الحنين.
مسّقط أبي، معّقل العُصاة والخارجين عن المألوف… بلدة تتوسط الخارطة السورية، بين حمص وعلى بعد ثلاثين كيلومتراً إلى شرق حماة، تنبسط بين الهضاب والجبال، منَ الجنوبِ هضبة السطحيات التي تمتد إلى جبالِ الشومرية، ومن الشرق جبال البلعاس، ومن الشمال جبال العلا، ومن الغرب المرتفعات الكلسية التي تشكِّلُ شبه حاجزٍ يفصلها عن حوض العاصي، وبهذا الموقع الفاصل بين تخوم البادية والحضر، المعزول والمفتوح في الآن ذاته، بنت السّلمية تاريخها الخاص، وجذبت إليها قوافل التجار والمتمردين عبرَ العصور.
معلومات “غوغل” تفيد أن تاريخ السَّلمية يعود إلى العصر الحجري، كانت مدينة عامرة في العهد السومري (3000-2400 ق.م)، وفي العهد الأموري (2400-2000 ق.م)، والعهد الآرامي. وعُرفت باسم “كور الزهور”. ازدهرت في الحقبة اليونانية-السلوقية، ولطيب مناخها اختارها أنطيوخوس الثالث منتجعاً استشفائياً لعلاج ابنته سلاميناس المصابة بالسل، وأطلق اسم المريضة على المدينة بعد وفاتها. تألقت في العهد الروماني، وفي زمن الامبراطورية البيزنطية، أصبحت مقراً لأبرشية مسيحية، تتبعها حوالي ستين كنيسة، وتحولت إلى واحدة من مدن السلام السبع آنذاك، من دخلها، مجرماً كان أم متمرداً، يصبح آمنا من ملاحقة أي كان. في القرن الثالث الهجري (التاسع الميلادي)، صارت السَّلمية مقر الدعوة الإسماعيلية الباطنية، منها خرج عبيد الله المهدي إلى تونس، وأصبح الخليفة الأول للدولة الفاطمية، ومن المهدية أُرسل المعزّ لدين الله الفاطمي (جوهر الصقلي) ليبني مدينة القاهرة المحروسة.
قام القرامطة بتدمير السَّلمية أواخر القرن الثالث الهجري، وأُجهز عليها نهائياً عند غزو تيمورلنك لسوريا عام 803 هـ. ثم أعيد إعمارها في منتصف عام 1848م، حين بدأ الإسماعيليون اللاجئون إلى الجبال الغربية وعكار، بالعودة إلى مدينة أجدادهم، بعد أن أصدر السلطان العثماني عبد المجيد فرمانا بالسماح لهم بسكناها من جديد، لصد هجمات البدو على مدينتي حمص وحماه، وأطلق عليها اسم “مجيد آباد”. وفي عام 1900م أُعيد لها اسمها التاريخي، ومنذ مطالع القرن العشرين كَفَل صندوق الطائفة الإسماعيلية التعليم والمداواة في السَّلمية، ما أسهم في انتشار مدارسها، قبل انتشار التعليم الرسمي بعقود، وكانت المدرسة الزراعية التي افتُتحت عام 1911، أول مدرسة ابتدائية زراعية في بلاد الشام، وكان شرط التعليم في البلدة حينذاك، المساواة بين الذكور والإناث، وتفضيل البنت على الولد، إذا كان الأهل لا يستطيعون تعليم سوى واحد منهما، حسب وصية الإمام (سلطان محمد) جد الإمام الحالي (كريم خان).
مفارقة السَّلمية الساخرة، أنها أسهمت إلى حد كبير في تأسيس حزب البعث وانتشاره، منذ أواخر أربعينيات القرن العشرين، وفي عهده تعرّضت إلى أكبر قدر من الإهمال والتهميش، حتى أنك لن تلحظ اليوم من معالمها العريقة غير الفقر الذي يسكنها، والعصيان الذي يحرّك عقول ساكنيها، وعلى حد تعبير عمي سامي في روايته “سليمان”: “أفضل لك أيها القارئ إذا وصل بك الترحال إلى مجيد آباد، أن تخلع نعّليك، لا لأنك بالوادي المقدس طوى، وإنما كي لا يستهجن حذاءك الحفاة، لا أريد أن أقول كل الناس في مدينتنا حفاة، وإنما شبه حفاة، يلبسون الخف صيفا وشتاء، وقد اهترأ بعضه، لا لأنهم يفضلونه مهترئا، وإنما لكي يبرزوا سيماء قدرهم”.
لم يبقَ من جمال المدينة الموصوف في كتب التاريخ غير القليل من الأوابد والحكايات: الحمام الروماني الأثري، وحطام الأقنية الرومانية التي كان يصل عددها إلى ثلاثمئة وستين، لكل واحدة حكايتها، أشهرها “قناة العاشق” التي بناها أحد أمراء المنطقة، قبل أكثر من ألفي عام، على طول مئة وخمسين كلم عبر السهول والجبال، كي تشرب مياه سَّلمية العذبة حبيبته، ابنة أمير مملكة أفاميا. ولا تزال بقايا سور القلعة، التي كانت سراديبها مأوى المفكرين والمتصوّفة الفارين من عسس العباسيين. وجدران مقام “الإمام اسماعيل” البازلتية الضخمة في وسط البلدة، تضم بقايا معبد زيوس وجوبتير… أطلال مدينة مهملة، محرومة ومضهطدة، أنجبت أهم كتّاب سوريا، وعليها ينطبق وصف ابنها الضال محمد الماغوط: “يحدّها من الشمال الرعب/ ومن الجنوب الحزن/ ومن الشرق الغبار/ ومن الغرب … الأطلال والغربان/ فصولها متقابلة أبدا/ كعيون حزينة في قطار”.
في تلك البيئة الغرائبية وُلد أبي عام 1930، من أب ثائر وأم سليلة الأمراء… حتى شبابي لم أعرف شيئا عن جدي محمد، توفي قبل أن أُولد، والدي، عمتي وأعمامي لا يتحدثون عنه، وإن استفسرتُ من أحدهم، كيف كان؟ يكتفون بذكر قسوته عليهم. حاولتُ مرة في حوار صحافي، أن استدرج عمي علي إلى الحديث عن والده، قال جملتين وصمت: “كان يخيّل لنا، أن أبي هو سبب حرماننا من طفولتنا، وبهذا كنا نلومه وحده، فلولاه كنا نعمنا بالمرح على البيادر المطلقة، والنوم أنّى نشاء، تحت النجوم أو فوقها،” “حين كنا أطفالا لم نكن نحس إلا بهذا الجانب من شخصيته (قسوته)، فيما بعد اكتشفنا أنه شخصية مؤثرة سياسيا واجتماعيا”*.
خارج إطار العائلة، كان جدي الأشقر، جميل الطلّة، قوي الشكيمة، كما يصفونه، كان شخصا متعلّما ومعتبرا، مكتبته زاهرة بنفائس المخطوطات، مضافته عامرة، يهابه الناس ويحترمونه، في شبابه ثار على العثمانيين، وتعرّض للنفي وضنك العيش، وتحت الانتداب الفرنسي، قاد في السَلمية حملة دينية واسعة النطاق، ذات طابع سياسي معارض، لتسّنين الطائفة الاسماعيلية، التي كانت يومها موالية للانتداب، على اعتبار أن الآغا خان يحمل الجنسية الفرنسية، ويعيش في فرنسا. نجح جدي في جذب نصف أهالي البلدة إلى المذهب السُّني، والنصف الآخر ظل متمسكا بمذهبه، أسهم بتشييد سبعة مساجد، دخل الكتلة الوطنية، وبنى اقطاعيته الكبيرة من العقارات والأراضي الزراعية، لم يوزعها على أولاده الزنادقة الملّحدين، بل ظلت بحكم المشاع حتى اليوم. وبعد خروج أختي من المعتقل عام 1991، مع من أُفرج عنهم من “حزب العمل الشيوعي”، أخبرتني أن الأخوات المسّلمات، كنّ يدللّنها ويعاملّنها بود خاص، كرمى لجدي الذي يعرفّن سيرته جيدا، ويقدرّنها عاليا، قلتُ: لسوريا أكثر من تاريخ طواه النسيان.
على خلاف جدّي، جدّتي كانت “حنانا دائما، نتوسده أنّى نشاء، ونجرؤ في حضرتها على القول فاطمة” وصفها عمي علي… جدّتي فاطمة (أم سامي) أعرفها جيدا، كانت تزورنا في اللاذقية طوال فترة سجن والدي، تحمل لنا أكياس العدس والبرغل، الزيتون الأخضر، خبز التنور، وكعك العيد، حصّتنا من غلّة الأرض والأملاك، التي كانت تديرها بمفردها بعد وفاة جدي. طقوس صباحها لا أنساها، تنهض من فراشها حوالي السابعة، تشرب ملعقة كبيرة من زيت الزيتون، وبقليل منه تمسح رأسها ووجهها، تمشّط شعرها الطويل، الأجعد، المخضّب بالحناء، تضفره، تفّتل سالفيها، تضع وشاحها الحريري الأبيض، ومن فوقه عصبتها السوداء المقصّبة، ترتدي ثوبها المطرّز الطويل، ومكياجها اليومي حمى وجهها الأسمر من الغضون والتشققات، وأبقاه متوردا رغم سنواتها التي قاربت الثمانين، وكانت تبدو لي بزيها الغريب، أقرب إلى أميرات البدو، منها إلى نساء المدن والأرياف، وفي حقيقة الأمر، هي تنتمي إلى سلالة أمراء السلمية، ومنها اشتُقت كنيتها المير.
أحببتها كثيرا، دائما قادرة على إدهاشي، امرأة جريئة، رقيقة الملامح، متوسطة الطول، جسدها أقرب إلى البدانة، تمشي ببطء شديد بمساعدة عكازها، ولا تحني ظهرها، أخبرتني: كانت تجلس على الأرض كعادتها، وقت جاءها نبأ اعتقال جميع أولادها دفعة واحدة، حاولتْ النهوض ولم تقدر، من يومها لم تعد ساقاها تحملانها… لم تكن تشكو وتتعبّد، تسبّح وتذكر الله، مثل باقي المسنّات، كانت تمازحني وتلاعبني الباصرة، تسرد ذكريات شبابها، وتقهقه مثل الأطفال، حدثتني: حين كانت تعتلي صهوة الخيل، لا أحد يسبقها. علّمت نفسها القراءة، حفظت السير الشعبية عن ظهر قلب، فتحت الكتب، وقارنت بين ذاكرتها الشفوية وشكل الكلام المدوّن، حتى التقطت كيف تُكتب الحروف والكلمات. كانت تحكي لي سيرة الزير سالم وبني هلال قبل النوم، تقطع، تتنهد وتقول “يارب البيت فيك احتميت” ثم تغلق عينيها وتنام، وإن مرضتُ، كانتّ لديها تمائمها ورقيّاتها السحرية، التي لم أعد أذكرها، تقرأها عليّ، وهي تمسّد شعري بيدها الحنون، وكانت تنجح كل مرة في إبعاد الشرّ عني.
بعد أن خرج والدي من السجن، لم تعد جدتي تأتينا، صرتُ أزورها معه في دارها الواسع ببابين خشبيين، يمتد على ألف من الأمتار المربعة، غرفه ومنافعه متلاصقة في ثلاثة أضلاع مستطيل، السور الطويل رابعها، ترسم فسحة السماء الرحبة، المليئة بالأشجار والزهور، وشجرة التوت الكبيرة، تحّرس غرفة ربة البيت، ينفتح بابها على العتبة، وفي الصدر صورة جدي بالأبيض والأسود معلقة على الجدار، تحتها سرير فاطمة الحديدي العريض، وإلى جوارها مدفأة الخشب الصغيرة والمذياع القديم، لجلستها فرشة وبساط، وللضيوف المقاعد، ولم تكن أم سامي تستخدم من بيتها الكبير سوى غرفتها، ما تبقى أسكنته عائلة فلسطينية، تساعدها في إدارة شؤونها العامة والخاصة، حتى يوم فارقتنا عام 1976. رحليها عن بعد، آلم أبي كثيرا، لم يبكها، فتح زجاجة الويسكي، وشرب نخبها حتى الصباح.
(13/1/2014 )
[ حواري مع علي الجندي، نُشر في جريدة “الكفاح العربي” بتاريخ 28/8/1997.
(2)
هل كان أبي الجاني أم القتيل؟
وُلد أبي في حضن الانتداب الفرنسي، ولم يكد يبلغ سنته التاسعة، حتى اندلعت الحرب العالمية الثانية، ووجد بلده تحت سطوة حكومة فيشي، وفي عام 1940 سمع بأول اغتيال سياسي، أودى بحياة أحد أبرز القادة الوطنيين في سوريا ذاك الحين، عبد الرحمن الشهبندر، بينما كان ستالين على الضفة الأخرى من العالم، يقارع النازية، وكانت الماركسية اللينينية، تعد الشعوب المضّطَهدة بالتحرّر من الاستعمار، وبالخبز والعدالة الاجتماعية.
قبل ذلك، كان “الحزب الشيوعي السوري” قد تأسس منذ عشرينيات القرن الماضي، ثم قامت “الكتلة الوطنية”، و”الحزب السوري القومي الاجتماعي” في الثلاثينيات، وكانت تلوح في الأفق نواة طبقة اجتماعية جديدة، ذات وعي مغاير، إثر إنشاء معمل الإسمنت في دمشق عام 1928، ومؤسسة “ترامواي وكهرباء دمشق”، وازدياد حجم الاستثمار في صناعات الغزل والنسيج والكبريت وغيرها. بدأ نضال الطبقة العاملة، وتُوِّج بتأسيس “اتحاد نقابات العمال” في الثامن عشر من آذار 1938.
في تلك الآونة، بدت سوريا واحدة من أهم بقاع العالم العربي، بعدد تجمّعاتها الأهلية، ومنظماتها النقابية، وحراكها المطلبي. عمّت التظاهرات البلاد مطالبةً بالاستقلال وتوفير فرص العيش، وكان لنقابات العمال وزنها، ودورها الفاعل في ميزان القوى والتجاذبات السياسية والعمل الجماهيري. رفعت سلاح الإضراب والإعتصام والإحتجاج، من أجل انتزاع حق الكادحين في تحديد ساعات العمل، ورفع الأجور، ووقف التسريح التعسفي، والإجازة مدفوعة الأجر، وتعويضات نهاية الخدمة، والمعالجة الطبية، والسكن والنقل، وحماية الأطفال. كما ساندت كل الجهود الرامية إلى حماية الاقتصاد الوطني، وتحقيق الاستقلال، من دون ارتباط سوريا بأية اتفاقيات مع مستعمريها. وكان صدور قانون العمل 279 بتاريخ 11/6/1946، بدل قانون “نقابات الحرف والمهن” العثماني، المعمول به، كان أول المكتسبات التي أنتزعها العمال، بعد أقل من شهرين على خروج آخر الجنود الفرنسيين.
تقاسم أبي الفقر والظلم والمرض والنقمة على الأوضاع السائدة مع أبناء جلّدته، وخرج مع زملائه من المدرسة إلى الشارع للاحتجاج مع المتظاهرين ضد الاستعمار. عاصر نهاية الحرب العالمية الثانية، وبناء المنظومة الإشتراكية. حمل علم الاستقلال. ذاق حلاوة النصر، وشهد ولادة أول حكومة تعددية حرة على النمط الفرنسي في بلده. وكان من الطبيعي في مثل نشأته وبيئته، أن يتعاطف مع المستضعفين، يؤيد ستالين ويميل إلى اليسار، يحلم بالوحدة العربية، وينخرط في صفوف “حزب البعث” فور تأسيسه، وهو لم ينل شهادته الثانوية بعد، سيما أن أخاه الأكبر سامي، كان من مؤسسي الحزب في منطقة السلمية عام 1947، وبدأت حياة خالد الجندي الحزبية بإضراب شامل، دعا إليه البعث احتجاجاً على قيام دولة اسرائيل.
مثله مثل كل السوريين، لم يهنأ والدي طويلا بالاستقلال والحكومة الديموقراطية. جاء عام النكبة، ومن بعده عام القلاقل والأحكام العرفية، وشهدت البلاد ثلاثة انقلابات عسكرية متتالية، أودت بالحياة الدستورية، بدأها اللواء حسني الزعيم بالانقلاب على حكومة شكري القوتلي في شهر آذار 1949، ثم جاء انقلاب سامي الحناوي في آب، فانقلاب أديب الشيشكلي في كانون الأول، وفي ذاك العام الدراماتيكي، دخل أبي تجربته الأولى مع المعتقل السياسي، لم تكن التجربة طويلة، ولا قاسية، لكنها جعلته يختبر الفرق بين الحياة الدستورية وحالة الطوارئ.
عادت الحياة النيابية، وصدر دستور عام 1950، الذي يُعتبر من الدساتير العربية، التي كفلت الحريات العامة، ومبادئ التعددية الحزبية والمساواة بين الجنسين، وفي ذاك الحين دخل أبي كلية التاريخ في جامعة دمشق، وكانت أمي الجميلة، واحدة من القليلات اللاتي تحديّن سلطة المجتمع الذكوري في بيئتها المحافظة، أصرّت على متابعة تعليمها، دخلت فرع الرياضيات والفيزياء والكيمياء، نزعت الحجاب، وارتدت البنطال، وفي الحرم الجامعي تعارف الاثنان، ووقع كل منهما في غرام الآخر. كانا أجمل عاشقين، وأكثر طالبين متفوقين، وكانت المناهج الدراسية حديثة وصعبة، تُدرّس بلغتها الأجنبية الأم، الفرنسية أو الإنكليزية، ولم يكن الفساد اكتسح الجامعات السورية بعد.
كيف حدث، وقطع أبي دراسته الجامعية في سنته الأخيرة، والتحق بالعمل في نقابة عمال المرفأ؟ لست أدري، على الأرجح كان للأمر صلة بنشاطه الحزبي. هل انقطعت علاقته بأمي بعد انتقاله إلى اللاذقية؟ أيضا لا أدري، ما أعرفه جيدا، أن نيل الشهادة الجامعية، ظلّ يؤرّق والدي، وأنه جرّب حظّه بعد ذلك لمرتين متباعدتين، وفي المرتين كانت الظروف تكسر حلمه، مثلما فعلت بكل أحلامه وحياته.
سكن أبي غرفة فقيرة، على سطح بناية من ثلاثة أدوار، في حي الشيخ ضاهر باللاذقية، سكن مع قطته وفأره، بعد أن دربّهما على التعايش السلمي، وبدأ يشق دربه بين عمال المرفأ، ويبني سيرته النقابية، في مرحلة مهمة من تاريخ نضال الطبقة العاملة، دشّنها إنشاء مصفاة حمص لتكرير النفط عام 1955، ثم إعلان الإضراب العام والشامل في كل المطارات والمرافئ العربية، أثناء العدوان الثلاثي على مصر عام 1956. عمال سوريا، قطعوا إمدادات النفط أيضا، واطلقوا مبادرتهم لقيام “الاتحاد الدولي لنقابات العمال العرب” الذي عقد مؤتمره التأسيسي بتاريخ الرابع والعشرين من آذار، في العام نفسه بدمشق، وبقيت العاصمة السورية مقرا للاتحاد الدولي، لأن الحكومة آنذاك، كانت تضمن له حرية عمله، وتمنح مكاتبه وأمواله والعاملين فيه حصانة دبلوماسية.
في تلك الفترة الساخنة، أبدى أبي ذكاء ملحوظا على مستوى التكتيك والتخطيط، ما لفت انتباه إدارة المرفأ إليه، وجعلها تنتدبه عام 1957، في منحة تخصصية إلى ألمانيا، لدراسة بنية التنظيمات النقابية، وآليات عملها. وفي هامبورغ قضى سنة وثلاثة أشهر، خالط خلالها الشيوعيين، الألمان والأجانب، قرأ منشوراتهم وكتبهم، حضر اجتماعاتهم، وتأثر بفكرهم لدرجة اليقين، ولدرجة أن رفاق البعث، أصبحوا يلقبونه بالشيوعي المنّدس.
ومن الطبيعي في مثل شبابه، أن يفسح لنفسه متسعا من الوقت للعلاقات العابرة مع الجميلات الألمانيات، واحدة منهن سوف تحتفظ بالجنين، الذي زرعه أبي في رحمها، وسوف تلد بعد رحيله، وتسمي طفلها سليمان، تبعث له برسالة إلى اللاذقية، تخبره بطفله. لم تطلب شيئا، وهو لم يكترث بالخبر، تابع حياته، كأن العلاقة بها لم تكن، وكبر بكره في حضن زوجها الألماني.
بعد إنهاء دراسته عام 1958، عاد أبو سليمان للعمل في مرفأ اللاذقية بنشاط أكبر، ترشّح للانتخابات النقابية، في القائمة المعارضة لقائمة الإدارة، وفاز برئاسة اتحاد عمال اللاذقية، ولم يكد يفرح بمنصبه، حتى قامت دولة الوحدة بين مصر وسوريا، فتمّ حلّ البرلمان السوري والأحزاب السياسية، وقُيدت الصحافة، وسرّح أبي من منصبه، ودخل السجن للمرة الثانية، بسبب موقفه المعارض لسياسات القمع.
بعد عدة شهور خرج من سجنه، وفي قلبه مقت كثير لكل ما يتصل بالناصرية، عاد إلى عمله، تزوج أمي التي غدت مدرّسة بعد تخرّجها من الجامعة، وكنت بكره منها، ثم وُلد أخي طرفة، وبعد الانفصال عن مصر بعام، حلّت الحكومة قيادة اتحاد النقابات واللجان النقابية، وحُظِّر على النقابيين ممارسة العمل السياسي، بموجب المرسوم التشريعي رقم 50، الصادر بتاريخ 2/7/1962… فقد أبي عمله، وفي تلك الظروف القاسية، استطاع رب وربة أسرتنا الناشئة، أن يوقعا عقد عمل للتدريس في المغرب، وأسرعا في مغادرة البلد.
في الدار البيضاء قضى أبي وأمي أحلى أوقات حياتهما الزوجية، شابان في حالة عشق، والبلاد خضراء وجميلة، بيت أنيق وسيارة، وظيفة محترمة، تدر دخلا عاليا، مكنّهما من زيارة كامل أوربا الغربية أثناء العطل الصيفية، وكنت بينهما طفلة وديعة، لا تعرف البكاء، بينما بقي أخي عند جدتي لأمي في حلب. سجّل والدي في كلية السياسة والاقتصاد، لمع في دراسته، وقبل أن يجتاز امتحانه الأخير، جاءه الأمر الحزبي بضرورة الالتحاق برفاقه البعثيين اليساريين، بعد أن نجحوا بانقلابهم على يمين البعث، في الثالث والعشرين من شباط عام 1966، طلب منهم أن يمهلوه لبعض الوقت، ريثما ينال شهادته، ورفضوا، كانت قد أُوكلت له مهمة تأسيس “الاتحاد العام لنقابات العمال” في سوريا.
تسلم أبي منصبه في دمشق، ولم نعد نراه في البيت إلا قليلا، قضايا الفقراء قضيته، والعمل النقابي اختصاصه، وفي فترة وجيزة أعاد للحركة النقابية وزنها وسمعتها واستقلالها. كان ينهض باكرا، يرتدي بزّة العمال الكحّلية، ويقضي جلّ يومه في مقر الاتحاد، جعله ساحة للمؤتمرات والاجتماعات، فتحه لياسر عرفات والثورة الفلسطينية، أسس “الكتائب العمالية المسلحة” للدفاع عن الكادحين أثناء التأميم في القطاعين الصناعي والتجاري، بنى روابط قوية مع اتحادات الدول العربية ودول المنظومة الاشتراكية، وقدّم منحها العلاجية والدراسية للمحتاجين، حضر المؤتمرات الدولية، ألقى الخطب، وأطلق تصريحاته النارية، التي كانت تسترعي انتباه زاوية “رجال خطرون” في صحيفة “نيوز تايم” الأميركية.
بات أبي الشخص الأكثر شهرة وجماهيرية من بين كل زملائه المسؤولين، بمن فيهم رئيس الجمهورية نور الدين الاتاسي، لكن المقام لم يطل به كثيرا في منصبه، بعد أقل من عام ونصف على تنصيبه، جاءت حرب الخامس من حزيران، استقال وطالب بالتحقيق في أسباب الهزيمة النكراء، وانقلبت حياته رأسا على عقب، من رئيس شغل الناس، وملأ الدنيا، وعُرف بنزاهته وإخلاصه، إلى سجين متهم بقتل عشيقته، واختلاس أموال “الاتحاد العام لنقابات العمال”… وسرت الشائعات في كل مكان للنيّل من سمعته، قيل إنه يملك دورا وعقارات، بما نهبه من الدولة، نُسب إليه أنه سجن معارضيه في أقبية الاتحاد، وعذّبهم بوحشية، تحدثوا عن فحشه وغرامياته، ولم تبقَ مفّسدة على الأرض لم تُلصق به.
لم تنطلِ التهم والإشاعات على مؤيديه ومحبيه، أدرك الجميع أن قضيته سياسية بامتياز، فلو كان أبي من سرق وقتل، بعد انسحابه من منصبه وحزبه، لماذا لم يهرب خارج البلاد بالأموال التي نهبها؟ لماذا لم يُحاكم علنا، ويُعدم بحسب القانون السوري؟ ثم في أية زنزانة اختفى طوال العام؟ وبدأ الضغط الشعبي للكشف عن مصيره، وملابسات سجنه، وفي حقيقة الأمر، كان والدي نظيف اليدين، مثل أغلب رفاقه المسؤولين في تلك الفترة، على قناعة لا تُجادل، المال والملكية الخاصة أصل الشرور، عاش بالأجرة، ولم يعرف أرصدة البنوك في حياته، كان ضد الأحكام العرفية والتعذيب، يؤمن بالنضال المطلبي الجماهيري، والمعارك السلّمية، أما غرامياته النسائية، فقد مشت جنبا إلى جنب مع كل محطات نضاله ومعاركه، لم يعشها في الخفاء، ولم يخجل منها في يوم من الأيام، كان يعتبرها شأنه الخاص، لا دخل لأحد فيه، غير أمي.
بعد إضرابه المفتوح عن الطعام، وتدهّور وضعه الصحي، في زنزانته المنّفردة، أُحيل النقابي السابق خالد الجندي إلى المحكمة الجنائية، للنظر بالتّهم الموجّهة ضده، وبعد عام برّأه القضاء من جُرم الاختلاس، أما قضية القتل العمّد، فقد استغرق النظر فيها سبع سنين، وراحت المعلومات، تتسرب سرا من جلسات القاعة المغلقة.
قبيل اعتقاله بشهور قليلة، جمعته المصادفة بامرأة ثرية، من الصعب مقاومة جمالها وأنوثتها، كما وصفها لي مرة، تكرّرت المصادفات واللقاءات، أغوته ودخلها، رافقته في سهراته، ومن خلاله تعرفت على أهم وجوه البلد، طلبت منه الأمان وكشفت سرّها، هي عميلة لعدة جهات، أُرسلت للإيقاع به، ولم تعد قادرة على أذيته، بعد أن وقعت في هواه، وأبدت رغبتها بالاعتراف بكل ما تعرفه، لقاء ضمان خروجها سالمة من البلد.
أبلغ أبي عنها دوائر الأمن، وتولى التحقيق معها عبد الكريم ناصيف، الذي دخل الأدب، بعد خروجه من الأمن، وكتب قصتها في روايته “الحلقة المفّرغة” التي صدرت عام 1984. سيرتها مأساوية، أجبرها والدها على الزواج من سعودي، متزوج وله أطفال، ذاقت الأمرين، قبل أن تستطيع الهروب من الرياض والعودة إلى دمشق، طردها أهلها، عانت وجاعت، ثم انزلقت إلى الدعارة والتجسس، ونعمت بالثراء والقوة، قبل أن تُصاب بالغرام للمرة الأولى، وتعترف بما لديها.
هجرها أبي، وانشغل بالحرب، وبعد النكسة غادر دمشق إلى اللاذقية، استأجر شقة في بناية صديقه كمال، وانتظَرنا ريثما نلتحق به، بعد انتهاء العام الدراسي. كان المنزل الجديد واسعا، مرفوعا على أعمدة، في بناية من طابق واحد وشقتين متقابلتين، تطل على تقاطع طرق، وأرصفة عريضة، مغروسة بأشجار البنفسج، في “المشروع الأول”، أحدث وأجمل أحياء اللاذقية حينها.
قبل أن ننتقل إلى منزلنا، اهتدت إليه عشيقة أبي، وفاجأته بزيارتها، شربا، تناولا الغداء، واعترفت بعدم قدرتها على العيش من دونه، أجابها: عندي زوجة وأطفال، هددته بالانتحار، اعتذر منها، وانسحب إلى غرفة نومه لأخذ القيلولة، لم يكد يغفو، حتى سمع صرختها وطلق الرصاص، نهض راكضا من فراشه إلى غرفة الجلوس، رآها ممددة على الأرض، دماؤها تسيل، المسدس إلى جانبها، خلفها باب الشرفة مفتوح، وبين يديه لفظت نفسها الأخير.
مذعورا، من دون وعيه، ركض إلى شقة جاره كمال، كي يتصل بالشرطة، ويبلغ عن الجريمة، هدّأ الجار من روعه، ونصحه بالتريّث قليلا، دخل شقتنا، سحب الجثة وغاب، وأُلقي القبض على أبي، هل انتحرت بالفعل، أم قُتلت، ومن القاتل؟ أسئلة لم تستطع المحاكمة الفضيحة، أن تجيب عنها. زُوّر تقرير الطب الشرعي، أُحرقت جثة القتيلة بالأسيد، ولم يبقَ من ملامحها غير سلسلة ذهبية، تحمل صورة أبي، ورُميت في السلمية، داخل أراضي جدي، كل المحامين الذين تبرّعوا للدفاع، تراجعوا بعد الجلسة الأولى، كل الشهود غيّروا أقوالهم، أُتلفت الأدلة، اختفت ملفات التحقيق، وتم تصفية الشاهد الوحيد على عدم تورط أبي بالجريمة، جارنا كمال، شهدتُ نعشه قادما من بيروت.
المستقبل
المستقبل