إثارة المخاوف من المرحلة الانتقالية
أكرم البني
لا يمكن تجاهل التوظيف الإعلامي الرسمي الخبيث لبعض المشكلات والصعوبات التي تمر بها الثورات العربية، بغرض تضليل السوريين وإثارة مخاوفهم من التغيير، والطعن بأهليتنا، نحن العرب، لتقبل الديمقراطية، وعرض معطيات تغري بذلك، مثل بعض مظاهر الفلتان الأمني، وتكاثر التجاوزات وصور الاحتقان الطائفي والأهلي، أو الحضور المستفز للسلفيين، وهم يرهبون من يخالفهم الرأي، والفتاوى التي تحلل وتحرم وتهدد البشر باتباع ما تراه الطريق القويم، والقصد إظهار خطر وصول القوى الإسلامية إلى سدة الحكم، وحالة التضييق والتنميط المرافقة لها، بما في ذلك الطعن في مصداقيتها وبأنها تضمر غير ما تظهر، ولن تفي بما وعدت به.
ويسأل سائل، ألم تنكث جماعة الإخوان المسلمين في مصر عهدها بعدم ترشيح أحد أعضائها لمنصب الرئاسة؟! ألم تستغل الثقة التي منحتها لها أكثرية نسبية لتكشف عن نهم «سلطوي» للاستحواذ على كل شيء دون اعتبار للآخر، وللتقاليد القضائية العريقة ولشعارات المساواة والمشاركة التي رفعتها؟! ألم يجاهر أحد قادة حزب النهضة التونسي، ما إن استشعر بالتفوق النسبي في الانتخابات، بدعوته لإقامة الخلافة الإسلامية السادسة، وهو الحزب الذي دأب على إظهار تميزه في الدفاع عن الحريات ومدنية الدولة وتداول السلطة!
مثل هذه الظواهر ليست عديمة الدلالة أو الأهمية، وهي تؤثر، بلا شك، ليس فقط على عافية الثورات وصحة تمثلها للشعارات الديمقراطية، وإنما أيضا على مزاج الشعوب الثائرة وحماستها للتغير، ويتضاعف التأثير السلبي في مجتمع تعددي، إثنيا ودينيا ومذهبيا، مثل المجتمع السوري، مما يمنح قوى الاستبداد فرصة ثمينة لتشغيل الأسطوانة «المشروخة إياها»، بأن الآتي لن يكون أفضل وأن مناخات الحرية تسوق الشعوب إلى الفلتان والفتن والانقسامات واستحضار العنف وأساليب التسلط ذاتها!
وإذ نعترف بحضور قوى متنوعة من الإسلام السياسي، لا يهم بعضها شعارات الحرية والمواطنة التي من خلالها حاولت كسب الناس ونيل ثقتهم بقدر ما يهمها طبع الثورة بطابعها، وجعل هوية الدولة ببعد واحد ينسجم مع ما تمليه أجندتها الأيديولوجية، نعترف أيضا بأن التحول نحو الديمقراطية ليس مخططا ذهنيا سهل التنفيذ، وبأن هذه الطرق سوف تكتنفها صعوبات ومشكلات كثيرة، يعمقها غياب نموذج ديمقراطي عربي يحتذى به، وسعي مرتكزات الماضي لتقويض هذا المسار وإفراغه من محتواه، عبر تفعيل التوترات المستندة إلى محمولات متخلفة، إثنية ودينية، ما يعني أن الانتقال إلى الديمقراطية لا يتحقق بمجرد إزاحة الاستبداد وتوفير بعض الحريات والقيام بانتخابات، بل هو عملية تاريخية تحتاج لزمن غير قصير، وبديهي أن تشهد في بعض المحطات إرباكات وصراعات حول السلطة وإصرارا قويا على تخريبها وإيقافها والارتداد عنها.
وبعبارة أخرى، فإن إسقاط الاستبداد لا يعني أن الثورة انتهت، بل على العكس من هنا يبدأ العمل الدءوب لوضع حجر الأساس للمشروع الديمقراطي المعافى، ودون فهم هذه الحقيقة سيفضي أي تطور لمشكلة من المشكلات إلى بعض الإحباط واليأس وشيوع إحساس باللاجدوى، فليس بالإمكان نقض الاستبداد وبناء الديمقراطية من دون عمل مثابر لدحر الثقافة السياسية والمدنية القائمة على روح الاستئثار والطغيان، والانتصار للروح الديمقراطية القائمة على الحرية والتسامح والمساواة والمشاركة!.
ولنعلم جميعا، أن ما تعانيه المجتمعات الآيلة للتحول الديمقراطي اليوم من نزاعات واضطرابات جراء انكشاف أحشائها ليس إلا نتيجة لما راكمته سنوات طويلة من القهر والقمع، ولنجاح الاستبداد في تدمير المجتمع المدني والأحزاب السياسية، وقتل روح السلام والتآخي والمبادرة لدى الناس، والأوضح سعيه المستمر لتلغيم وحدة المجتمع بإحياء شبكات من المصالح والارتباطات العشائرية والقبلية أو الدينية، يستولد منها الصراعات المتخلفة عند اللزوم، ليضع الجميع أمام اختيار خطير، إما الانصياع للاستبداد بوصفه ضامنا للأمن والاستقرار وإما الفوضى والصراعات الأهلية!
واستدراكا، فإن من يريد الحفاظ على الأوضاع القائمة بحجة الحفاظ على الأمن والاستقرار أو خوفا من أن لا تأتي نتائج التغيير كما تشتهي سفنه، يريد في الحقيقة تأبيد الاستنقاع والتعفن والتسلط والفساد، وهو يطعن – من حيث يدري أو لا يدري – في شعارات طالما تغنى بها، عن الشعب ودوره التاريخي وأهليته للتمتع بالحرية والنهوض بالمجتمع، ويبدو كأنه أدمن العيش معارضا ناقدا للمشكلات القديمة، ويأنف خوض صراعات المرحلة الانتقالية والتعاطي مع إشكاليات من طراز مختلف تفرضها الديمقراطية الوليدة!
لا أحد يستطيع تقديم ضمانات حول مستقبل المرحلة الانتقالية، التي يحتمل أن يطول زمنها أو يقصر، تبعا لحجم المشكلات والصعوبات ولنوعية المعوقات السياسية التي تعترضها، وتأثرا بخصوصية المجتمع وتنوع مكوناته، ودرجة تطوره الاقتصادي والثقافي، والأهم مدى تبلور البديل السياسي الديمقراطي ونضجه، فمن لا يحضر السوق لا يبيع ولا يشتري. ويصح القول إنه كلما نجحت قوى التغيير الديمقراطي في خلق تفاهم عريض، وتجاوزت سوء الفهم، والتنافس المرضي، وأحبطت الألغام الأيديولوجية التي خلقها تباين الخيارات الفلسفية والاجتهادات الدينية و«الحزازات» القديمة، كان المسار أسهل وأسرع.
والحال، لن يكون القادم – أيا كانت حيثياته – أكثر سوءا مما نعيش، وليس من خيار بعد هذا الاستبداد المزمن وما خلفه من بؤس وترد سوى فتح الأبواب لرياح التغيير والإيمان بولادة صيرورة جديدة أهم وجوهها إطلاق حريات الناس وحقوقهم، ومشاركتهم في صياغة مستقبل آمن من دون قهر أو وصاية، صيرورة يمكن الوثوق فيها، والاطمئنان لآفاقها وديمومتها، كونها تأتي بالضد من ماض استبدادي ثقيل ومكروه يصعب الارتداد إليه، ولأنها تنعم باستعداد شبه دائم للإرادة الشعبية لتوظيف الميادين والساحات دفاعا عن حقوقها وخيارها الديمقراطي.
الشرق الأوسط