صفحات الرأي

إثمان لم يغفرا لكِ/ أحمد ديبو

 

 

بدأت حركة روّاد النهضة العربية منذ ستينات القرن التاسع عشر. هم روّاد الأقاصي. كان مسكنهم في ذلك المكان القائم عند حافة الأفق، حيث تُفرغ قوس قزح ألوانها مرتاحة الضمير. إنّ كلمة “روّاد” إنما تعني الذي شقّ كلّ واحد منهم، وبالتتابع، ميدانه البكر في الثقافة أو العلوم، بحيث استحق كلمة رائد. النهضة تعني الانتقال من المجتمع القروسطي إلى المجتمع الحديث. لقد جاء هؤلاء الروّاد في زمن كان للأتراك صولةٌ على العرب وتجبر، حتى إنّ العربي كان لا يحق له أن ينظر إلى وجه التركي، كما لا يحق له أن ينظر إلى حرمه. وإذا اتفق ما جاء في “نوادر الدهر” أنّ تركياً وعربياً تماشيا، أخذ العربي بالنسبة المفروضة، وهي أن يمشي عن يسار التركي محتشماً خاشعاً. فإذا عطس التركي قال له العربي: رحمك الله! وإذا تنحنح قال له: حرسك الله. وإذا مخط قال له: وقاك الله! وإذا عثر عثر الآخر معه إجلالاً له وقال: نعشُكَ الله لا نَعشَنا!

 

لقد درس هؤلاء الروَاد العظماء بمدارس أشبه بالأقبية أو بالزرائب منها بالمدارس، وكانت تدعى الكتاتيب. حيث كان يجتمع أبناء الحي من السن الرابعة إلى العاشرة ذكورا وإناثاً، يجلسون على حصير، بسطت على أرض القبو. كلّ واحد منهم يحمل طرّاحته، وبين يديه صندوق صغير “بَشتَخته” يضع عليها كتابه ودفتره وأدواته وريشته. هذه الكتاتيب أوصلت أغلبهم إلى أن يدرسوا في الجامعة الأميركية. من بين رمس ذلك الواقع الذي عاشوا وترعرعوا فيه، استطاعوا بجرأتهم دخول كهف الحقيقة المحجّبة من دون أن يبالوا بالعواقب. دفع معظمهم ثمناً باهظاً لذلك. لقد كانوا بحقّ، أبناء أبي العلاء المعّري المشرقي، وابن خلدون المغاربي، وابن رشد الأندلسي. لم يكن مشروعهم شذرات متفرّقة ينثرونها عفو الخاطر، وما كانت مقولاتهم انتقائية قطفوها من هنا وهناك ثمّ حاولوا تنسيقها في بنية فكرية، بل كان لديهم مشروع متكامل للتمدن يشتمل السياسة والاجتماع والاقتصاد والثقافة. كانوا روّاد جميع الإنسانيين، كانوا طلبة لروح التساهل والتسامح. آمنوا بفصل الدين عن الدولة، بل بفصله أيضاً عن التعليم. ذلك أن الدين علاقة خصوصية بين المخلوق والخالق. لذلك طلبوا وعملوا أن تكون مدارس الشرق كالمدارس الفرنسية. كذلك دعوا إلى الحقوق المدنية التي تشكل أساس مفهوم المواطنة، واعتبروا أول شرط للتمدن أن تمدّن نفسك أولاً، حتى تكون أهلاً لتمدين المجتمع، واعتبروا أن الحرية والمساواة والعدل أساسات يقوم عليها بنيان الروابط الوطنية، التي هي الأرض اللازمة لبزوغ المدنية، وإحراز التمدن هو غاية الأمم والأفراد. لم ينسوا أهمية تحرير المرأة وتعليمها ورفع الحجاب عنها، وطالبوا بتسييس الشعب كي يستطيع النهوض، فيصنع مصيره بنفسه، لذا طالبوا بتدريس مبادئ السياسة في جميع المدارس ليعرف جموع الشعب حقوقهم وواجباتهم السياسية والمدنية، بعدما ظلّت السياسة حكراً على دائرة مغلقة حول الحكام والطبقة الأريستوقراطية. تماما كما فعلت الثورة الفرنسية التي حطمت احتكار الأريستوقراطية للتربية السياسية وعممتها على أبناء الشعب كجزء لا يتجزأ من نقل السلطة إلى القطاعات الشعبية في كلِّ نظام ديموقراطي. في الحقيقة كانت فتوحاتهم متقدمة فكراً وممارسة، وكانوا حالمين كباراً. هل نذكر كوكبة الذين أسسوا الصحف والمجلات ودور النشر في مصر؟ يكفي أن نذكر أن الشيخ إبرهيم اليازجي (1847- 1904) ابتكر أشكالاً جديدة للحروف الطباعية مما سهّل رصف الحروف واختزلها من ثلاثمئة إلى ستين، ما ساعد على صنع “الآلة الكاتبة” بنسختها العربية. أمّا أحمد فارس الشدياق (1804-1886) ابن عشقوت (كسروان) المتخرج في مدرسة عين ورقة فصار معلّم العالم العربي في القرن التاسع عشر، وكان تأثيره في اللغة العربية المعاصرة حاسماً وبعيد المدى، والصحافة العربية المعاصرة مدينة له سواء في مجال التحرير أو التعليق أو الأسلوب أو اللغة. كان الفضل يعود إليه في اشتقاق الكثير من المصطلحات المتداولة في كل العالم العربي، أذكر منها: الجريدة، الجامعة، المنتدى، المحترف، المستشفى، مجلس النواب، مجلس الشورى، الصيدلي، الجواز، إعلام، موقف، دبابة، كهرباء، و…إلخ. هذه الاشتقاقات وقف مجمع اللغة العربية منذ تأسيسه عاجزا عن ابتكار ما يدانيها.

أمّا شبلي الشميّل ابن كفرشيما (1860-1917) الذي كان شعاره “الحقيقة يجب أن تقال لا أن تُعلَّم فقط”، فقد تتلمذت عليه طلائع النهضة الحديثة في مصر أمثال لطفي السيد، سلامة موسى، إسماعيل مظهر وغيرهم. كان يطالب تلامذته بأن يكونوا ذوي عقول حُلَّت قيودها وتفتحت منافذها وأقامت التفكير مقام الاعتقاد. هاجر إلى مصر ليخوض أعتى المعارك منتزعاً لقب رائد العلم الطبيعي، عبر شرحه نظرية النشوء والارتقاء، فمدح جمال الدين الأفغاني جرأته قائلا: جرأته على بثّ ما يعتقده من الحكمة وعدم تهيّبه من سخط الجموع. أمّا سليمان البستاني فكان أوّل من ترجم إلياذة هوميروس، فكانت حدثاً مدوّياً في ذلك الوقت. كان يتقن ثلاث لغات نقلت إليها الإلياذة هي الفرنسية والإنكليزية والإيطالية. لكنه تعلّم اليونانية القديمة عندما ظهرت فروق بين الترجمات وخصوصاً في النشيد الثاني والعشرين، وفيه مقتل هكتور، أجملها، فكل ما قبله، وكل ما تبعه كان في خدمة هذه اللحظة الدرامية. وهو ترجمها شعراً، مستخدماً لكل حال بحراً: الطويل للسرد، والبسيط لما هو بين السرد والخطابة، والوافر للرقة، يشاركه في ذلك الخفيف. أمّا الكامل فهو أتم الأبحر السباعية، ليسهل فيه الخبر والوصف، والخبب للحركة، والرمل لانسياب العواصف وخوالج النفس. بقي تسع سنوات في ترجمتها، وهذا يدل على مدى الجديّة التي كان يتحلى بها هؤلاء الروّاد. إنهم إذا ما أقدموا على أمر أرادوه كاملاً. هذه شذرات من بحر إبداعهم التي لم تنضب معانيها حتى الآن. فأسئلتهم التنويرية لا تزال قائمة، وننقّب عن معناها ودلالتها في مجتمعاتنا، من أجل تطور لا حدود له للعلم والإنسان والمجتمع.

لقد استطاعوا بأرواحهم العظيمة أن يخلقوا من بين شدقي الظلمة حياة زاهية. إنهم أبطال. ألم يكن هوميروس بطلاً أعظم من هكتور أو أخيل؟ لقد كان بطلاً لا ليقتل أبطالاً آخرين، بل ليخلقهم ويهبهم الخلود. وكان رواد النهضة من طينة هوميروس.

في خمسينات القرن الماضي، كانت بيروت كعادتها على موعد مع قدرها في أن تكون الخيط الذي يصل بين سيزيف والمسيح، بين اليأس ويقين الأمل. فهي كانت ولا تزل الطريق المثلى: للجمال والحكمة وحسن المعاملة. وهذا متصل بالإيمان والأمل والمحبة سلّة بيروت التي لا تنضب. وهي كعادتها تمنح الحرية لكل غريب مطارد يحط رحاله فيها. لكن شرط الإقامة هو إظهار الاحترام لحريتها ولجمالها ولطريقة عيشها. بهذه المواصفات كانت المدينة الأجدر لاحتضان ولادة حركة الحداثة، التي اكتسبت عنوانها الحقيقي مع بزوغ “مجلة شعر”، أبرز ناطق باسم هذه الحداثة. معها، كان للحداثة حضور إشكالي شامل. لعل ما يفسر هذا الحضور الإشكالي لحركة “مجلة شعر” انخراطها في إشكاليات نظرية حادة من قبيل إشكاليات اللغة والعروبة والتراث والهوية القومية – الحضارية والانتماء …إلخ. وإذ لم يجد مؤسسو “مجلة شعر” مفهومهم للحداثة في الشعر وحده حلاً نظرياً يقبلونه خارج حل معناه في هذه الإشكاليات نفسها، وبواسطتها، وتحديد موقف جذري غير مهادن فيها. بمعنى أنه لا بد من وضع هذه الثقافة بقضها وقضيضها، بأصولها الدينية والتاريخية والإثنية، موضع تساؤل أو شك أو رفض. هذا يعني، في ما يعنيه، نسبة للمدافعين عن الجمود والتحجّر، هتكاً وعصياناً يستهدفان اختراق شبكة ثوابتهم الإيديولوجية والدينية التي نُسجت منذ ألف عام ونيّف. أساساتها قائمة على المعتقدات الدينية، والقومية الاستبدادية، والملكيات الرجعية المطمئنة إلى وضعها لدى السواد الأعظم من الجماهير التي همَّشتها بالفقر والجهل وتركتها هائمة على وجهها ما بين سجون، وغربة داخل أوطان هي أشبه ما تكون بالزرائب.

في هذا الطرح الشامل، اكتسبت الحداثة اسماً آخر للنهضة، وكانت على تراسل مع أطروحات روّادها. لقد تمَّ تحديد شروط النهوض على يد أبرز منظّري حركة مجلة “شعر” الشاعر يوسف الخال، الذي قال بضرورة إحداث قطيعة معرفية مع العقلية القروسطية، ومن ثمَّ التواصل من دون عُقد مع الغرب بوصفه نتاج عقل تميَّز بكونية قوانينه وشموليتها. من هنا فإن حضارته ليست غربية إلا بالمعنى الجغرافي، في حين أنها إنسانية بالمعنى المعرفي – الثقافي. النعت شكلي لا جوهري، إنه تعبيري فقط. كان أبرز جماعة مجلة “شعر” وشقيقتها “أدب” طاردي أنفسهم من المسلّمات والعقائد (أنسي الحاج، شوقي أبي شقرا، يوسف الخال، عصام محفوظ)، فضلاً عن المطرودين من أحزابهم العقائدية التوتاليتارية، إلى جانب عدد من المطاردين الذين هربوا من سوريا أمثال أدونيس وخالدة سعيد ومحمد الماغوط ونذير العظمة. إذاً، خلال قرن تراسلت بيروت النهضة عبر روّاد النهضة مع محيطها لتتحوَّل إلى مدينة الرسالة والتبشير والثورة على ظلمة المحتل العثماني. في حين تراسلت بيروت الحداثة والحديثة عبر روّاد حركة الحداثة مع محيطها العربي لتتحوّل إلى مدينة متمرِّدة وداعية للحرية والديموقراطية، ورافضة للاستبداد والعبودية. المحيط الاستبدادي الرجعي، وكذلك إسرائيل ومن يقف وراءها، لم يغفرا لبيروت هذين الإثمين. فبدل أن تهدى الورود إليها، شحذت السكاكين لكي توجّه إلى بيروت “باريس الشرق” كما دعيت في الستينات والسبعينات من القرن العشرين. بدأت تصفية الحسابات معها إثر تصريح شهير لوزير خارجية الولايات المتحدة الأميركية الذي اعتبر أن لبنان خطأ جغرافي وسياسي. من ذلك الوقت بدأت سلسلة من الحوادث المريبة سأذكرها بتسلسلها الزمني:

أولها، حوادث أيلول الأسود في الأردن في العام 1970، وما ترتب على ذلك من انتقال معظم فصائل منظمة التحرير الفلسطينية بأسلحتها إلى لبنان. ثانيها، شرعنة الوجود الفلسطيني المسلّح عبر بوابة قاهرة جمال عبد الناصر.

ثالثها، موت جمال عبد الناصر، ومجيء محمد أنور السادات كرئيس لمصر الذي مسح كل تركة عبد الناصر.

رابعها، حرب تشرين التحريكية في العام 1973 من وجهة نظر السادات تمهيداً للبدء بمفاوضات سلام مع إسرائيل.

خامسها، زيارة السادات المشؤومة للقدس المحتلة، وهي لحظة درامية صادمة أشعلت الحرب الأهلية في لبنان في العام 1975، ثم أدخلت قوات الاستبداد العربي تحت مسمى “قوات الردع العربية” وكان رأس حربتها قوات حافظ الأسد القوي والقادر على تنفيذ ما يعجز عن فعله الآخرون. وليكتمل إطباق فكّي الكماشة، اجتاحت إسرائيل لبنان في العام 1982 واحتلت بيروت، فأخرجت الفصائل الفلسطينية منها إلى الشتات، فتحقق الإطباق المحكم من إسرائيل ومن وراءها، ومن الاستبداد العربي وعنوانه حافظ الأسد آنذاك.

لقد غُرز النصل في جسد بيروت وصار يقلّب حتى أدميت المدينة، وخارت قواها، وأضحت ضعيفة في مقاومة إظلام الشرق. لتكتمل الجريمة، كان لا بدّ من إفقار الطبقة الوسطى العربية. بهاتين الجريمتين الموصوفتين، مُهّدت الأرض لانتشار سريع للفكر السلفي بين تلك الجموع البشرية المجهّلة. وبنيت مئات الجوامع في مدن الصفيح، والعشوائيات، والقرى النائية، حيث الأرض خصبة لتلقف أيّ شيء قد يكون حبل خلاص. خَطب في هذه الجوامع شيوخ الفكر الجهادي التكفيري. وروّجت فيها كتب السلفية، ووزعت بأبخس الأثمان، وتمَّ إنشاء جمعيات خيرية طابعها سلفي كانت مراكز استقطاب ودعوة وتنظيم وتدريب وتسليح. كل ذلك تمَّ بدعم الاستبداد العربي وصمته. ثلاثة عقود ونيّف تخادم كلٌّ من الاستبداد والفكر السلفي، فأمّن كل واحد للآخر ما يقتات به حتى وصلا معا إلى التخمة. كان مصير هذا التخادم أن ينفرط عقده عند أوّل هزَّة اجتماعية قوية، كما حصل مع بداية ثورات الربيع العربي. لقد وجد السلفيون أن فرصتهم التاريخية قد حانت، وأنهم من القوة والتنظيم ما جعلهم يشعرون بقدرتهم على تحقيق هذا الحلم في الاستيلاء على السلطة، من أجل تمهيد الطريق إلى إعادة إحياء جنّتهم المفقودة المتمثلة في الخلافة الإسلامية. الجميع يقطف الآن ثمار هذا التقاتل الشيطاني ما بين الاستبداد والفكر السلفي التكفيري. إن أنبل ما قهره العربي هو الحصان العربي، عندما تمّ ترويضه. لكنهم عجزوا عن ترويض بيروت ومعها الطبقة الوسطى العربية، فاستلّوا النصال وغرزوها فيهما. ها نحن نرى نتائج هذه الجريمة المزدوجة الآن. الخروج من هذا الانهيار العظيم الذي نراه اليوم، هو في أن تعود مطابع بيروت تَهدُر فتُسمع في أرجاء العواصم العربية، وأن تعود كتبها تملأ مكتباتنا فكراً وشعراً وثقافة تنويرية. يليق ببيروت لا بغيرها أن تكون كذلك، لأنّها كانت وستبقى أيقونة لا شرقية ولا غربية، يكاد قلبها يضيء حتى لو لم تمسسه نار.

النهار

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى