إثنيات ومذاهب.. نفط وغاز/ غازي دحمان
ثمة إكتشافان، من المشرق، جرى الإفراج عنهما بالتزامن مع وقوع الثورة السورية، الأول هو ذلك العداء النافر بين مكونات المنطقة، والذي فاض من نافذة الثورة السورية، والثاني هو النفط والغاز اللذان إنبلجت عنهما شواطئ المتوسط. هذان المكونان سيكتبان تاريخ المشرق، ويشكلانه وفق مقتضياتهم، وتطور الأمور في مجاريهما وأعماقهما.
الإثنيات والمذاهب، هي إكتشاف المشرق الفذ. قبل ذلك، كانت تلك الأمور موضوعة في متحف التاريخ بشكل إجباري، أو محفوظة في ثلاجة مؤقتة، يجري تداول أمرها، إما بالسلب كما كان في خطابات كل التيارات السياسية، يسارية ام دينية، وهي الغالبة في المشرق، ويتم لعنها رغم نوامها، وإما لتوظيفها كأيقونة في مزاودات السياسة الخارجية للأنظمة.
أوجد هذا الأمر حالة من الضجر لدى مختلف المكونات الإثنية والدينية، جراء إصرار أنظمة الحكم على كبت هوياتها، ما دفعها للبحث عن طرق ومسالك لتظهير هوياتها المكبوتة قسراً. وبما أن التعبير عن تلك الهويات كان يحصل مواربة وتقية وسراً، وفي ظل مناخ من التوتر والإضطراب الدائمين، فقد جاءت عملية تظهير تلك الهويات مشوّهة في مضامينها وأبعادها، فلجهة المضمون كان الإنغلاق والعدائية أبرز سماتها، حيث عمدت أغلب المكونات المشرقية إلى التركيز على الخيط الصراعي في دراما وجودها التاريخي وصراعها مع المكونات الأخرى. أما لجهة البعد العلائقي مع المكونات الشريكة، فقد سادت الصور النمطية المشوهة بين كل المكونات عن في تصورها لبعضها البعض. وهو الأمر الذي سيوجد مناخاً وبيئة لإنتاج المتطرفين وسيادتهم في مختلف المكونات.
جرى حرمان مكونات المشرق، وبخاصة في سوريا والعراق، من حق ممارسة طقوسها العادية، كإحياء بعض الشعائر والإحتفال بالمواسم الدينية، حيث منع حكام العراق، وبأسلوب لا يخلو من الاحتقار والإكراه، شيعة البلد من الإحتفال بمناسباتهم لعقود طويلة. وفي ظل حكم البعث في سوريا، كان يجري الإشراف والتدخل في تفاصيل تلك الإحتفالات، ما ساهم في تشويهها ومسخها. وكان ذلك القمع يجري بحجة الضرورات الوطنية. لذا، ترسخ الوطن في مخيال المكونات، بوصفه مرتبطاً دوماً بحالة القمع تلك. وساد إحساس أن تلك البنية (الوطن)، التي طوت بداخلها حتى الضرورات الإنسانية البسيطة، هي بنية برانية عن وجدان المحكومين، وعن قيمهم ومعتقداتهم، حتى لو انها تضمنت بداخلها الرموز (العلم والجيش والنشيد الوطني) والأنظمة جعلها فوق كل الإعتبارات الأخرى. تلك البنية، كانت بنظر المحكومين فاسدة، وخارج سياق التاريخ الحقيقي لتطورهم الطبيعي، وإن أول بوادر الإصلاح يجب أن تبدأ بهدم تلك المنظومة وإحالتها إلى الماضي. فمع بقائها، حتى ولو رمزياً، سيبقى شبح الخوف قائماً. والبديل عن تلك الحالة، يتمثل بتأليف المكونات منظومات جديدة، برموز تشبهها وتعبر عنها، وفي ظلها يصبح الأمر أكثر أماناً، رايات خاصة بدل الاعلام الوطنية، وميليشيات بدل الجيوش. وأهم ما فيها أن تحمل في معانيها رمز العداء للآخر.
ومن الطبيعي، وفي ظل حالة الإنقلاب على المنظومة السابقة وتفتيتها، أن يشمل الأمر البعد الإقتصادي، في تلك المنظومة، وإعادة صياغة العلاقات بداخله، وهي حالة طبيعية في وضعية صراعات المكونات الماقبل دولتية، فإحتكار الموارد والهيمنة عليها جزء من مكونات الهوية وتمايزاتها. صحيح أنها تمظهرت في المشرق في عهد الأنظمة القمعية على شكل السيطرة على المناصب والوظائف، وبخلل فاضح، حيث كان المكوّن الغالب يستحوذ على المساحة الأكبر من كتلة الوظائف المتاحة، أو تلك الأميز فيها، كالجيش والأمن ومناصب السلك الدبلوماسي والبعثات التعليمية، وسواها مما توفره مؤسسات الحكم، إلا أنه في حالة إنتهاء ذلك الشكل المؤسساتي القديم والإنقضاض على بنية الدولة السابقة، فإن الصراع سيرتكس إلى الصراع على الأصول نفسها، المياه والأرض وما تحتويه من ثروات وطرق التجارة والعبور.
وهنا يتراءى لنا مشهد الإكتشاف المشرقي الثاني. أي الغاز والنفط على شواطئ المتوسط، في سوريا ولبنان. إذ تفيد التقديرات بوجود إحتياطات كبيرة من الغاز خصوصاً. وهو متغير جديد على شعوب هذه المنطقة، التي لطالما إتبعت إنماطاً إنتاجية، ووسائل إقتصادية تقوم على الزراعة والصناعات التقليدية وخدمات السياحة. وهي كلها أنماط كانت تتطلب المزيد من الصبر ممزوجاً بالإبداع، ما فرض نمط حياة أساسه التدبير، ولم يعرف الإستهلاك إلا في أجزاء محددة من العواصم، أو لدى بعض الفئات التي تغربت، في حين أن الكتلة الأكبر بقيت ملتصقة بنمط حياة تقليدي.
لا يكمن الخوف في إكتشاف النفط والغاز في سواحل المشرق، من إمكانية تأثيره في نمط حياة شعوب هذه البلدان، وتحولها إلى إقتصاد ريعي بالكامل، وليس الخوف من أثر ذلك على منظومتهم القيمية والثقافية. تلك أمور يمكن علاجها أو التكيف معها، حالة الخليج العربي مثالا على ذلك، إنما في ربط تلك الثروات في سياق الصراع الدولي، ولخدمة أهداف سياسية محددة. فالواضح أن منطقة المشرق، من البصرة حتى صيدا يجري ربطها بمشروع الغاز الروسي الإيراني، بحيث تتحول إلى كارتل كبير، في مواجهة غاز ونفط الخليج، كما يجري إحتكار الحيز الجغرافي السوري بوصفه معبراً برياً لخطوط الغاز تلك إلى أوروبا، وإحتكاره هنا، ينطوي أيضا على عملية إستباقية تهدف إلى حرمان غاز الخليج من عبور الأرض السورية.
والحال فإن هذه المنطقة يجري تهيئتها لأن تتحول إلى معابر وطرق ترانزيت، ومحطات تجميع لمشاريع الغاز والنفط الروسية والإيرانية، وجهد هاتان الدولتان ينصرف على إمكانية تكييف الوقائع الإجتماعية والسياسية، في هذا الحيز، لخدمة هذا المشروع، بوصفه جزءاً من مستلزمات البنية اللوجستية للمشروع، بما يتضمن ذلك الحفاظ على بنية سياسية مؤيدة في العراق وسوريا ولبنان، وقمع كل إمكانية لإنتصار التعبيرات الرافضة أو تلك التي يشك بولائها للثنائي الروسي والإيراني.
غير أن الوقائع التاريخية تثبت أن إمتزاج تنافر المكونات، مع ظهور الثروات، يلغي إمكانية حضور المشاريع الكبيرة، وخاصة في ظل إشتداد الصراع الدولي. حينها، تستبدل المشاريع الكبرى بعمليات تسوّق صغرى، فيحصل أن يتم شراء الثروات الواقعة تحت سيطرة تلك الطائفة مثلاً مقابل بيعها الأسلحة اللازمة للدفاع عن نفسها في مواجهة الطائفة الأخرى التي تبيع خدمات أخرى والحصول على السلاح اللازم. حصل ذلك في الصومال وفي الكونغو، أغنى دول العالم بالثروات الخام، وفي بقاع أفريقية كثيرة. لم تكن الحالة سوى إستنزاف لتلك المكونات وثرواتها.
المستقبل