إجابة واحدة على كل عروضهم بالتنازلات.. لقد تأخرتم كثيرا
عارف دليلة
هذه واحدة من آلاف القصص المتشابهة، بعد اعتقالي، وقعت والدتي في حالة عجز كامل عن الحركة، مع بقاء نظرها وسمعها ووعيها سليمة، لكن صوتها اخذ في الاختفاء تدريجيا. كانت تسأل: اين عارف؟ لقد وعدني ان يأتي.
كانوا يجيبون، انه مسافر، ولكن اضطروا بعد ستة اشهر الى الاعتراف باني في السجن (وكل الناس تعرف ان (جريمتي) الوحيدة عند من يدعون انهم يكافحون الفساد انني كنت ضد الفساد، ولم تنفع كل وسائل الترغيب والترهيب الهائلة في (ردعي) عن ارتكاب هذه ‘الجريمة النكراء’). وقد قاومت وهي على هذه الوضعية حوالي ثلاث سنوات، وهم يتنصتون عند كل زيارة على اسئلتي واجوبة الزائرين عن وضعها الصحي، آملين ان يؤدي ذلك الى انحطاط قواي والانضمام الى عبادة الفاسدين (من بين الكثير من العابدين) وذات صباح جاؤوني بالجريدة اليومية التي كنت اشتريها، وكالعادة قلبت صفحاتها بسرعة فوجدت نعي والدتي. اغلقت الجريدة وقمت اتمشى في زنزانتي الانفرادية، واتفكر في دوافع ارباب الانحطاط الاخلاقي للاقتناع بهكذا ممارسات وحشية ضد الانسان، فلم اجد الا هيمنة النوازع الحيوانية. وبعد دقيقة واذ باحد (العناصر) يفتح النافذة بسرعة، فيراني اتمشى والجريدة على السرير فيطلب مني ان اعيره اياها لان الضابط يريد الاطلاع عليها وسيعيدها بسرعة.
عرفت انهم رأوا النعي وارادوا اخفاءها قبل ان اراها. اعطيته الجريدة متظاهرا اني لم افتحها. يومان طويلان جدا مرا وانا افكر في تقديم طلب للسماح لي بالمشاركة في دفن والدتي ثم يعيدوني الى السجن. كتبت الطلب اكثر من مرة لامزقه بعدها لاني واثق انهم لن يفعلوها (مع مجرم بهذه الخطورة التي تقدر بحجم ارقام فسادهم الهائلة). وبعد ايام زارتني اختي طبيبة الاطفال سلمى التي كانت تعمل في السعودية منذ ثلاث سنوات لابسة السواد فتظاهرت امام (العناصر) باني لا اعرف شيئا سألت اختي عن والدتي فاخبرتني انها لم تعد تحتمل المقاومة والانتظار اكثر، (اختي سلمى ايضا قضت مع زوجها نور الدين بدران في حادث مروع وهي عائدة في الصيف بعد سنتين، ولم يخبرني احد بذلك حتى بعد يومين من خروجي من السجن، خوفا على صحتي التي كانت تسوء بسرعة). بعدها بفترة سمعت من مونت كارلو ان والدة الصديق ميشيل كيلو (وكان قد زج به في السجن بنفس الجرائم التي اسميتها ‘اللصاقة’ المستلة من قانون عقوبات حسني الزعيم، مرتكب جريمة اول انقلاب عسكري عام 1949 المتهم بعثيا بانه (عميل المخابرات الامبريالية – الصهيونية) وهو القانون الاكثر احتراما عند متهميه في الممارسة على مدى حوالي نصف قرن) قد توفيت وانه طلب من داخل السجن السماح له بالمشاركة بدفنها والعودة في نفس اليوم (وقد اخبرني لاحقا ان الاهل في الخارج هم الذين طلبوا ذلك) ورفضوا الطلب فحمدت الله على انني مزقت الطلب ولم اتقدم به اليهم.
والبلية الاكبر ان اسمع وانا منعزل في زنزانتي الفردية من اذاعة النور (اذاعة حزب الله) في نفس الفترة حوارا مع احدى النساء الفلسطينيات المجاهدات في الضفة الغربية، وقد روت ان الشهيد الدكتور الزهار (نائب الشهيد الشيخ احمد ياسين مؤسس حماس في غزة رحمهما الله كان اسيرا عام 1981 في سجون الاحتلال الاسرائيلي عندما توفيت والدته، فاخرجه الاسرائيليون لتشييعها قبل ان يعرف ويطلب ذلك).
(بالطبع ليس من عظمة اخلاقهم الانسانية وهم الذين يرتكبون من الجرائم على مدى قرن كامل ما حمل الامم المتحدة على وصم الصهيونية بالعنصرية، في قرار شهير اواسط السبعينيات، ولم يلغ الا بعد تخاذل الحكام العرب وتواطئهم مع الصهيونية ضد شعوبهم).
كان القرار الاسرائيلي نوعا من ‘السياسة’ لا غير، في التعامل مع من يعمل على ازالة اسرائيل من الوجود، وبالسياسة – اضافة الى الوحشية والدعم الامبريالي الاعمى- مازالت اسرائيل تدعم وجودها وتتوسع في القتل واغتصاب الحقوق على مدى حوالي قرن كامل.
ترى اليس غياب الوعي السياسي لدى الحكام العرب هو ما جعلهم يصطدمون اليوم ليس فقط باحتقار العالم لهم، بل ايضا باحتقار شعوبهم بعد نصف قرن من احتكار السلطة والامعان في الاستبداد والفساد، حتى اختفت جميع الشعارات من الحياة العربية لصالح شعار واحد هو ‘الشعب يريد اسقاط النظام’، ولتحل محل كل عبارات الاطناب التي استمرأوها على مدى نصف قرن، كلمة واحدة لا تقبل التأويل ‘ارحلوا’ واجابة واحدة على كل عروضهم بالتنازلات ‘لقد تأخرتم كثيرا’.
العقل والضمير هما (فقط لاغير) ما ينقص الحكام (العرب) فهل آن الاوان لحكام عرب ذوي عقل وضمير؟
هذا سؤال كبير برسم الثورة العربية العظمى المندلعة حاليا على الارض العربية من المحيط الى الخليج.
‘ خبير اقتصادي وناشط سياسي سوري
القدس العربي