إخصاء قصيدة النثر/ محمد المطرود
سقوطات تعريف الشعر
أولى المقاربات التي تصلُ إلى المسامع حول تعريف الشعر ترتبطُ مبدئيًا بالعلاقة مع الموسيقى. ذلك صَبو الفنونِ جميعها، من حيث تلازم الظاهر والمخفي، الشكل والمضمون، القوة والمنعة والبساطة والهشاشة، فالانتظامات التي تفترضها الموسيقى ويصعبُ الإمساك بها لا ترتبط فحسبُ باللحنِ، وإنما بالفعاليةِ النفسية التي يثيرها اللحن، بحيث تتحولُ تلكَ التراكيب من عدمٍ إلى كيانية شبهُ واقعية، وحين لم يكن من السهل ترجمة المقطوعة فالأمر ينسحبُ على الشعر بهذا الفضاء الجمالي الذي يشيعهُ حولهُ، وما يمكنُ أنْ ننقلهُ عن السرد هنا، لا يمكننا نقلهُ عن الشعر، إذ من المتعذّر جدًا أن تنقلَ الرائحة نفسها من مكان إلى آخر قولًا ما لَم تكن متشرّبًا بها وحافظًا لها، وهنا أشاكلُ فكرة جوهرية يوردها بورخيس في كتابه “صنعة الشعر” عن الناقد النمساوي هانسليك، حين يرى، ويؤيدهُ بورخيس، بأنّ الناقل يقوى على سردِ قصةِ الشعرِ، أو المحتوى الحكائي لها، في حين يمكن القول إن هذا ممكن وحاصلٌ معَ المقطوعاتِ السرديةِ وغير ممكن مع الموسيقى في وقتٍ تصبو إليها الشعرية كشرط أساسٍ، وهنا أعززُ فكرتي الآخذة نحوَ الاحتفاء بالإيهامِ الذي تستوجبهُ القصيدة أكثر من الحقيقة، بتلك الهالةِ الضبابية حول المعنى للحدّ الذي يكسرُ المعنى والغايةِ الرئيسةِ!
وانطلاقًا من هذا الأساس، الذي بنتْ عليهِ الموضوعةُ العربية فهمها للشعر وعرفته وفقها، يبدو من الإنصاف القول إنّها موفقةٌ بعضَ الشيء غير أنّها لا تصمدُ أمامَ المشاكلة التي رُمتُ بعضها بالاستفادةِ من قراءات ودراسات ذهبتْ إلى منحى يتجاوز “أنَّ الشعرَ كلامٌ موزونٌ ومُقفىَّ”، بل يبدو التعريفُ مضحكًا فيما لو سقطَت ورقةٌ مكتوبةٌ بالوزن والروي والقافية وخلّتْ من الإدهاشِ والذكاءِ في تثوير اللغةِ والاستفادة من ممكناتها غير الوظيفية.
لي الآنَ أنْ أوردَ شيئًا عن إليوت في كتابهِ “في الشعر والشعراء” ولا بأسَ أنْ أختمَ بهِ هذه الفقرة الفكرة: “أمّا هدفُ القصيدة الواضح فهو الوصول إلى مفعول الحلم. وليس من الضروري، لكي نستمتع بالقصيدةِ، أنْ نعرف ماذا يعني الحلم”.
قصيدةُ النثر وإفراطٌ في”البيزنطية”
يكاد لا ينتهي الجدلُ حولَ تعريفِ قصيدةِ النثر بكلّ ما قاربتهُ آنفًا، والذي قد يندرجُ في خانةِ الدفاع عن الشعر بوصفه ذاك الذي يحوز صرخةَ جان كوكتو، وهو بالتالي دفاعٌ مقنّعٌ عن قصيدةِ النثر ومشروعها ومشروعيتها، فهي يقال إنّها ليستْ طفرة وإنّما تطور موضوعي ومعرفي وتراكمي واستجابة للتحولاتِ الحضارية العربية في مقدمِ القرنِ العشرين، وكذلك هي قدرتها على استيعابِ الترجماتِ العربية للنصوصِ الغربيةِ ومماشاةِ المستجداتِ والقدرةِ على تحديثِ الذائقة العربية الشعرية بعد أن بقيت طويلًا أسيرةَ التقليدِ للنمطيةِ التي يفرضها الوزن والقافية وبالتالي هي أسيرة سلطةٍ. لا غرابة في القول إن أنصار الحفاظ على التراثِ وحرّاس اللغة والخائفين على مكانتهم وطوطمهم من المنافسةِ لم يتورّعوا عن إثارة الجدل والأسئلةِ حولها بقدر ما ذهبوا أبعدَ من ذلكَ باتهامِ شاعرِ النثر بالتخريبِ والهدمِ وفكّ عرى الثقة مع الثقافة واللغة العربية وأصالتها الشعرية بالاستجابة لما هو آتٍ من الغرب ذي الميولِ الاستعماريةِ الكولونياليةِ!. ويؤكد عباس بيضون ومعهُ أنصار مجلة “شعر” الرائدة في تبنيها فكرة قصيدةِ النثر وإفرادها نفسها لها والدفاع عنها بما معناه: إن استجابة قصيدة النثر للترجمات كان يمكن أن يشكل بعدًا معرفيًا لازمًا ومهمًا في حركية الترجمة الشعرية عمومًا، وهذا يمكن أن يشكل منعة وقوة هذه القصيدة وفي الآن ذاته ضعفها أمامَ التشاكل الذي يقفز من ضفةِ المحاججة إلى الاتهام!
فشل الخصاء في العام واستمرارهُ في الرسمي
تأتي قصيدة التفعيلة اليوم كقصيدة وسط بينَ البيت والنثر القصيدة، وفي انحسارِ الأولى وبقائها في زوايا ضيقة لا يمكنها المدافعة إلّا في مناسباتٍ ممجوجة، وحفاظ قصيدة البيتِ القديمةِ بشعرائها الأفذاذ وروحهم الشعريةِ التي وصلت إلى أسلافهم، تكونُ الساحة في منافسةٍ واضحة معلنة حينًا ومضمرةً حينًا آخر، إذ يبقىَ ديدنُ كتّابُ التفعيلة للخلاصِ من روحِ التعالي بحسبهم والموجودة في كتّابِ النثر بردّ قصيدتهم إلى التعريف الساذج للشعر أو بالقول عنها بأنها شكلٌ جميل يتمُ قتلهُ بتسميتهِ قصيدة، في حينِ يجد شاعر النثر المهمّش اليوم والمستثنى- وهو استثناء حميد برأي- من المسابقاتِ والجوائز والمهرجانات “الوطنية” والتي ما زالت تنظرُ للشعر بجماهيريته وريادته في قيادةِ الشارعِ إلى الثورةِ والكثير من القضايا الكبرىَ التي يرىَ أنصار هذه المهرجانات توفرها في الشاعر. ولعلَّ شاعر النثر لا ينفكّ عن التعكّز على تعاريفَ يقعُ في استهلاكها واجترارها من قبيلِ الموسيقى الداخلية والعلاقات الما فوق وظيفية في المفردةِ ولا ينفعهُ أمامَ شعراء تفعيلةٍ كانوا للأمسِ القريب ضدّ النثر القصيدةِ واليوم كتبوها ووجدوا حلاوتها بحسبهم، ذلكَ أنَّ هذه القصيدة أكثرَ إدهاشًا وصنعة، وأن التقيّد بالوزنِ وإن أهملَ القافيةَ والروي وأهمية الشطرين كانَ معطّلًا لحساسية تقتربُ من الإيهامِ والحلمِ الذي لا يكفي بأنْ تعرفه، بل يكفي ألّا تعرفه وتتركهُ غامضَ التسمية!
لا أعلم ما هو عددُ شعراء قصيدة النثرِ والتفعيلة الذين قرأوا كتابِ الفرنسية سوزان برنار “قصيدة النثر من بودلير حتى الوقت الراهن” والذي صدر في عام 1959 وفيه إجابةٌ ناجعةٌ، تقرّبُ المهتّم من فعلِ هذه القصيدةِ الموّارة والهادرة بوصفها تمتلكُ “نزعة تدميريّة وفوضويّة”.
ضفة ثالثة