إخفاق ثورات «الربيع العربي» يأس يقود إلى «داعش» أو المنفى أو… الانتحار/ بورزو درجاهي
تماسك طوال أشهر، ولكن حين برز الشقاق بين الإسلاميين واليساريين الذين رصوا الصفوف في ثورة 2011- وهو كان من مؤيديها- وبدأوا القتال في شوارع القاهرة نهاية 2012، فقد توازنه. أحمد الدروي كان ضابط شرطة ترك السلك هذا، وانضم إلى الثوار المصريين وكان من أبرز وجوه انتفاضة ميدان التحرير. وانقلب الدّرَوي من شخص مرح طليق اللسان إلى شخص متقوقع يتفادى الحياة العامة. وإثر سقوط الرئيس الإسلامي، محمد مرسي في تموز (يوليو) 2013 وبروز نظام يدعمه العسكر، غادر مصر، وقال لأقاربه إنه يسافر للعلاج الطبي.
وفي 29 أيار (مايو) 2014، رن هاتف أهل أحمد الدروي، ابن الثمانية والثلاثين سنة ووالد ثلاثة أطفال، فبلغهم خبر مقتله في العراق في ساحة القتال، على زعم المتكلم. فالناشط الديموقراطي الذي ترشح كمستقل إلى الانتخابات التشريعية المصرية في 2012، انضم إلى «داعش»، وقضى وهو يقاتل في صفوفها.
انتقال الدروي من النشاط السلمي إلى القتال في صفوف مجموعة عنيفة تبرأ منها الجميع وحتى «القاعدة»، هو مرآة جانب مقلق من مآل ثورات 2011 العربية. فمرحلة الأمل والتفاؤل نفخت في التوق إلى الديموقراطية وحقوق المواطَنة من جهة، ومن جهة أخرى أطلقت عنان شياطين هذه المجتمعات: القمع السياسي والقتال الأهلي والطائفي والفوضى التي عمت مجتمعات عرفت حكماً استبدادياً. وباستثناء تونس، انزلقت كل المجتمعات العربية التي انتفضت إلى القمع البالغ العنف أو النزاع المسلح. والأمل بخروجها من الاستبداد خبا على وقع استقطاب «داعش» رجالاً ونساء من أمثال الدروي الذي يغرد خارج نموذج الجهادي النمطي. فهو نجل والدين جامعيين وُلِد في 1976، وشب في المعادي. وتابعت شقيقته دراسة مرتفعة الكلفة في الجامعة الأميركية بالقاهرة. وتسنى له درس سبل التزام القانون في أكاديمية الشرطة. «لم نكن من الطبقة الوسطى فحسب، بل نحن أسرة ثرية»، يقول هيثم شقيقه المقيم في قطر. وبعد عام أمضاه في سلك الشرطة، تبددت ثقته بالمؤسسة التابعة لوزارة الداخلية التي ذاع صيت استخدامها العنف وتفشي الفساد فيها. فترك الشرطة وانضم إلى شركة «اتصالات» الإماراتية المشغلة للهواتف الخليوية، وتولى منصب مدير تسويق، يبرم صفقات رعاية الشركة النوادي الرياضية. وبلغ دخله وزوجته نحو 7 آلاف دولار شهرياً في بلد لا يزيد معدل الدخل الشهري فيه على 500 دولار.
ويتذكر ناشط مصري اللقاء بأحمد الدروي عام 2010 في مكاتب تيار «التجديد الاشتراكي» وكان وغيره من الشباب الليبرالي واليساري في طليعة منظمي الاحتجاجات بعد كانون الثاني (يناير) 2011. وذاع صيته في مجتمع الخيم التي أيعنت في ميدان التحرير قبل سقوط حسني مبارك في شباط (فبراير) 2011. ولم يكن أحمد الدروي رجلاً حالماً. فهو الضابط السابق في الشرطة المدير في القطاع الخاص، ووالد أطفال ثلاثة لم يخفَ عليه أن إرساء الإصلاح بطيء الوتيرة، وأدرك أواليات عمل المؤسسات. وحين دعا إلى إصلاح وزارة الداخلية، اقترح خطوات لتحسين عملها، وطالب بتقليص عدد ساعات العمل وترجيح كفة العمل المكتبي والإداري وتشجيع الشرطة على حماية أمن المواطن، وإصلاح نظام الرواتب، وبرامج تدريب تقيد العنف وتقوّضه. وأخبر أصدقاءه أنه مستعد للانضمام مجدداً إلى الشرطة والقبول براتب متواضع إذا كانت خطوته هذه تساهم في التغيير. وعرض رزمته الإصلاحية على عدد من الحكومات الانتقالية، ومنها حكومة مرسي. لكن أفكاره لم تلقَ آذاناً صاغية، وباءت جهوده بالفشل.
وفي مرحلة الانتخابات الانتقالية، ترشح الدروي إلى مجلس الشعب، ونظم حملة في مسقط رأسه، ورفض الترشح على لائحة «الإخوان» وأفلح في استمالة تأييد يساريي الثورة، حزب «الثورة مستمرة»، له وحزب النور السلفي. وأظهرت بيانات جمعها متطوعون أنه حاز مع مرشح آخر غالبية الأصوات وكانا يتجهان إلى التنافس في جولة ثانية لكن لجنة انتخابية أعلنت فوز مصطفى بكري، وهو صحافي مقرب من النظام. و «دارت الظنون حول إقصائه وتزوير الانتخابات. وكان غاضباً وحزيناً، شأن معظم الشباب الثوري الذي ترشح إلى الانتخابات ولم يفز»، يقول ياسر الهواري (36 سنة)، وهو ناشط مصري ليبيرالي. والانتخابات الرئاسية كانت كذلك مدعاة إحباط. فالدروي كان من مؤيدي عبد المنعم عبد الفتوح، الزعيم «الإخواني» السابق الذي ترشح إلى الرئاسة كمرشح ليبرالي والتزم روحية ميدان التحرير، لكنه خسر في جولة الانتخابات الأولى.
وعلى رغم أن بعضهم يصفه بالإسلامي المعتدل، لم يفك الدروي عرى صداقته بزملاء في الثورة من اليساريين والليبراليين. وتزامن انحلال رابطة التضامن بين الإسلاميين والثوار العلمانيين مع بداية انقلاب الدروي من حال إلى أخرى. فمواجهات كانون الأول (ديسمبر) 2012 في الاتحادية بين الليبراليين واليساريين وبين مؤيدي مرسي كانت منعطفاً: اقتتال أركان انتفاضة ميدان التحرير. وعدوى مثل هذه المواجهات بين الإسلاميين وخصومهم، نخرت صفوف المعارضين المنتفضين على الرئيس بشار الأسد في سورية، وأججت نيران النزاع بين الفصائل الليبية، وشابت المرحلة الانتقالية في تونس. و«وحدة صفوف الجموع، الفقراء والطبقة الوسطى والمهنيين وناشطي حقوق الإنسان، كانت من أبرز سمات الثورات (العربية). لكن الإجماع على معارضة الديكتاتوريين لم يترافق مع أهداف واحدة ولا رؤى مشتركة ولا تصور واحد للمستقبل»، يقول فواز جرجس، أستاذ شؤون الشرق الأوسط في «لندن سكول أوف إيكونوميكس». ووقعت المواجهات وقع الصدمة على الدروي، ورأى أن الثورة تنزلق إلى كارثة. وبدا لرفاقه في الثورة أنه ينحاز أكثر فأكثر إلى الإسلاميين ويتهم الناشطين العلمانيين بالوقوف وراء عنف الاتحادية، ويرجح كفة انتسابه إلى الإسلام على كفة أفكاره الليبرالية. وبعد حوادث الاتحادية، نأى الدروي بنفسه عن السياسة المصرية وانشغل بهوس بالمأساة السورية، وقلب حكومة الأسد الانتفاضة السلمية إلى حرب أهلية يتواجه فيها النظام الذي يغلب عليه العلويون مع متمردين سنة يستقطبون المقاتلين من أمكنة قصية مثل شمال أميركا. «صار ديدن كلامه على الثورات العربية وسورية وعن وجوب إنقاذ ناسها»، يقول محمد عباس وهو ناشط إسلامي يعمل في مؤسسة بحوث في الخليج.
على شاشات تلفزيونات العالم العربي، تربعت صور الأطفال القتلى ضحايا براميل نظام الأسد المتفجرة محل صور المحتجين المطالبين بالديموقراطية والملوّحين بالأعلام. ويقال إن الدروي انضم إلى المتظاهرين المؤيدين لمرسي صيف 2013. وفقد أثره إثر القمع العنيف في ميدان رابعة العدوية. «كان شديد الحزن والغضب. واليأس لسان حاله»، يقول عباس. وفي خريف 2013، أقيل من عمله، وانقطعت أخباره عن زوجته»، يقول شقيقه. وفي شباط (فبراير) الماضي، اتصل الدروي بشقيقه عبر الإنترنت، وطلب منه الاهتمام بالوالدة والوالد. «لم يخطر في بالي أنه يودعني، حسبتُ أنه يطلب مني العناية بوالدينا فحسب، فنحن لطالما عذبناهما في صغرنا». ويسعى هيثم الدروي إلى معرفة مآل أخيه في أشهر حياته الأخيرة، وهو يعتقد بأنه التحق بـ «جبهة النصرة» قبل أن يرتقي إلى مصاف زعيم في «داعش»، نهاية 2013. وهو لم يحدد موقع جثمان أخيه ولا ظروف مقتله، وثمة زعيم سوري معارض يقول إن الدروي قضى على يد القوى العراقية في تكريت.
ويرى بعضهم أن قصة الدروي وانتقاله من ضابط شرطة إلى ثائر سلمي إلى مقاتل «داعشي»، دليل على أن القوى الأمنية مخترقة وأن الثورات العربية كانت غطاء المتطرفين الإسلاميين. وهذه التفسيرات الكاريكاتورية المبسطة لا تفسر في شكل وافٍ تجنيد «داعش» أمثال الدروي. «الناس تلتحق بداعش بسبب غياب احتمال بديل. فإلى وقت قريب، كانت المجموعة هذه تحرز نجاحات كبيرة… ثمة من يلتحق بمجموعة داعش على رغم انه يخالفها الرأي في شطر راجح من أيديولوجيتها. ولا يرى هؤلاء سبيلاً آخر أو بديلاً إلى التغيير»، يقول جايمس دورسي، وهو كاتب وباحث تقصى عن نضال السالمي، لاعب كرة القدم التونسي الذي مات في القتال في صفوف «داعش». ولسان حال من عرفوا الدروي في تسويغ «تحوله» من ناشط سلمي إلى مقاتل داعشي، هو الكلام على يأسه. واليأس هذا إزاء خيبة التوقعات بالتغيير والإخفاق في إرساء الديموقراطية وحقوق المواطنة، قاد عدداً من الثوار المصريين إلى درب المنفى أو الإحباط والكآبة والدمار الذاتي والانتحار. من هؤلاء زينب المهدي، الناشطة السلمية التي شنقت نفسها في شقتها بالقاهرة الشهر الماضي.
* مراسل الصحيفة في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، عن «فايننشال تايمز» البريطانية، 3/12/2014، إعداد منال نحاس
الحياة