“إخوان دمشق”: السقوط قبل الصعود/ حمود حمود
كتب مرة ليو شتراوس في اختتام حديث له وهو ينتقد العلم السياسي الحديث بكونه «يعبث في الوقت الذي تحترق فيه روما. بيد أنه معذور بحقيقتين: الأولى، أنه لا يعلم أنه يعبث، والثانية أنه لا يعلم أنّ روما تحترق». المعنى الذي يفيد به هذا التعبير ينطبق تماماً على «إخوان» سورية ومعظم من يحمل أيديولوجيات ومنظومات فكرية هوائية، قوميةً كانت أم إسلامية: حيث تقف هي وطواحينها المخيالية في جانب وروما في جانب آخر. وإذا كان مشروع الإسلام «الإخواني» السوري قام بالأصل نتيجة فضاء ثقافي عريض مكسوٍّ بطلاء الإحياء والتأزم مع الغرب (وهو الفضاء الذي ولد منه معظم التوتاليتاريات القومية)، فإنه إضافة إلى ذلك قام نتيجة دعوة إحيائية نهضت في مصر، وكان الشيخ مصطفى السباعي لباها في الثلاثينات والأربعينات، أي أنّ المشروع «الإخواني» السوري كله لم يقم نتيجة ضرورات واقعية فرضها التأزم السوري حينها، بل نتيجة هوائية إسلاموية، كان حسن البنا من أوائل من حلّقوا بها.
تركت استحقاقات هذه الولادة التأسيسية لـ «إخوان» سورية خارج مفهومة الدولة، آثاراً عميقة ما زالت تضرب بنيتَهم الداخلية، سواء على الصعيد التنظيمي أو الأيديولوجي، أو حتى في الأهداف المتوخاة: لأنهم ولدوا خارج حدود الدولة، خارج أسوار دمشق، فإنّ الدولة لن تغدو فقط من ألد أعدائهم، بل لا يعلمون ماذا يجري فيها. هكذا، لتغدو الحال أشبه باللازمة الملتصقة بهم: «إخوان» دمشق في جانب، ودمشق نفسها في جانب آخر. إنه سقوط بنيوي قبل أن يكتسي أيّ صفة أخرى.
إنّ تدقيقاً بسيطاً بسلوك «الإخوان» في شأن تعاطيهم مع الأزمة السورية يثبت ذلك. وهنا ثمة ناحيتان يمكن الإشارة إليهما: أولاً، لم تتوقف التصريحات «الإخوانية»، بين الفينة والأخرى، عن أنّهم يرغبون في سورية دولةً مدنية يكون مرجعيتها الإسلام. وهذا يعود أساساً إلى أنهم لطالما يطابقون بين أنفسهم كـ «إخوان»، كجماعة طهرانية، وبين الدولة وبين الإسلام، كما يُقرأ وفق نظاراتهم الأصولية. وإذا كانت الحال هكذا، لا نستغرب الفـشل المـتحـكم أصـلاً بنظرهم الـسياسي والأيديولوجي. إنهم «إخـوان مسـلمون»، ولأنهم كذلك، فإنهم يريدون دولة إسلامية، إذاً لينتظروا!
النقطة المركزية في سورية هنا والتي يمكن ذكرها على الهامش، أنّ مطابقة «الإخوان» لأنفسهم مع الإسلام كانت دائماً تأتي بنتائج عكسية، لا على الصعيد «الإخواني» فحسب، بل حتى على صعيد الشارع المسلم ككل. ففي بلد متعدد مثل سورية كان ذلك يعني مواجهات، ضمنية وصريحة، بين تمثيل «الإخوان» «المفترض» للشارع المسلم، وبين الأطياف السورية الأخرى. ولم تكن أحداث حماة 1982 وما أحدثته لاحقاً من استحقاقات أليمة على المجتمع السوري ككل سوى برهان على هذا. هكذا، فإنّ القضية في سورية لم تعد لاحقاً قضية «إخوان»، بل قضية إسلام. وهو الأمر الذي يفسر الصراع على الإسلام الذي حدث في مجرى الثمانينات، إضافة إلى التسابق في أسلمة المجتمع السوري، ومن هو الطرف الحق، «الشرعي» للتحدث باسم إسلام المجتمع السوري.
ثانياً، إنه إضافة إلى سلوكهم في التعاطي مع الحدث السوري باتخاذ السلوك الانتهازي من خلال سياسة «الوقوف على التل»، فإنهم كانوا يعتقدون بأنّ طريقهم إلى دمشق لا يمر بما تريده الاستحقاقات المتأزمة بها، بل باستحقاقات مشاريع تقع خارج الحدود منها. وقد ظنوا أنّ أقرب طريق لهم هو الحاضنة التركية واحتذاؤها، بصرف النظر عن كيفية إطفاء الحريق المندلع بدمشق. وهذه الحاضنة لم تمثل طريقاً سياسياً فحسب، بل حتى نموذجاً أيديولوجياً اعتقدوا بوجوب إلباسه على الأجسام السورية المتعددة والمعقدة. وكم نتذكر التصريحات المتعددة منذ بداية الأزمة للمراقب الحالي وحتى لأعضاء بارزين منهم بأنّ النموذج التركي «هو النموذج»، كما جاء مرة على لسان محمد فاروق طيفور. وهذا ما كان يعني أنّ الأنماط الأيديولوجية، وحتى مقاساتها التي تفرض في هذه الحال، لا شك كانت ستكون تركية.
وهو ليس بعيداً عن هذا، فهناك كثير من التقارير يدل على الدعم الهائل، العسكري والمادي الذي تلقته هذه الجماعة من تركيا وأطراف إقليميين وتأسيس شبكات جهادية لها على الأرض، ومن ثم ليُكشف لاحقاً عن السرقات الضخمة التي مارسها أقارب «الإخوان» في الأيديولوجيا، في الوقت الذي بلغ الألم السوري كل مبلغ (ولم تكن إقالة سليم إدريس إلا أحد العناوين الصغرى لذلك).
هكذا، لا نستغرب إذا ما قلنا إنّ التساقط التركي الأردوغاني إذا اشتد أكثر، فإنه أيضاً تساقط لمريديه في المنطقة: «إخوان» دمشق على رأسهم. وطالما أنّ هذا النمط «الإخواني» السوري هو من المشاريع الهوائية ومرتبط بحس الخرافة، بعشق الولادات التأسيسية والارتباط بها وبالشعور الدائم بأنه مدينٌ لها، بالنمو وفق مجراها الذي تفرضه… إلخ، فإنه ليس غريباً أنّ سقوط «إخوان» مصر (لكن سلطوياً)، هو كذلك سقوط للأحفاد: «إخوان» دمشق أيضاً على رأسهم.
كل هذا يأتي في ظل تساقط إسلاموي واسع تشهده المنطقة، خصوصاً على صعيد الفشل في إدارة الدولة وأزماتها، بل حتى الفشل في رؤية ماذا تعنيه الدولة، والتي لا يُفهم منها سوى كونها تركة سلطوية، يطبق فيها ما يُشاء من منظومات عقائدية مخيالية، وتُكسَّر العظام على كتفها، كما يحدث عادة وكما حدث مع القوميات الهوائية التي حكمت. وإذا كان «إخوان» مصر تذوقوا قليلاً من انتهازيتهم في ممارسة السلطة، فإنّ «إخوان» سورية، والحال محزنة بالنسبة إليهم، لم، ولن يتذوقوها ما داموا يقعون خارج الدولة (وسيبقون كذلك). إنه سقوطهم قبل الصعود.
لا يُعتقد بأنّ ثورةً داخل الشارع «الإخواني» إذا ما حدثت (كما يجري الحديث عنها الآن)، يمكن أن تفيد ما دام «الإخوان» لا يدركون هوائياتهم، ولا يدركون مآسي الشعب السوري الأليمة. لا يمكن أن نفيد أي ثورة داخل شارعهم ما داموا يرهنون استحقاق ولادتهم بحدود تقع خارج حدود دمشق، ما داموا يعبثون في الذي تحترق به دمشق.
الحياة