إدارة التوحش والفوضى العارمة
محمد محمود مرتضى
يقع الكثيرون من متتبعي الحركات التكفيرية في تفاصيل الاحداث الصغيرة، ويغفلون البحث في سؤال محوري مفاده: هل ما تقوم به «داعش» هو مجرد عمل ظرفي تقتضيه تطورات ساحة الحرب، ام انها تعمل وفق تخطيط مسبق ودراسات اعدت لهذا الغرض.
في الواقع ان الوثائق وكتابات منظري ما يسمى بالحركات «الجهادية» تشير الى ان هذه الفوضى قد ساهمت بها «داعش» ومن سبقها عن تخطيط، ضمن رؤى استراتيجية تعتبر فيها ان الفوضى هي البوابة الفضلى للدخول من خلالها الى قلب المنطقة وتنفيذ المشاريع الخاصة بها.
الفوضى التي عمت العراق وسوريا واليمن وليبيا وغيرها كانت فوضى مقصودة ومخططا لها. وهذه الخطط للفوضى وان تقاطعت مع مخططات «الفوضى البناءة او الخلاقة» التي عملت عليها الادارة الاميركية منذ مدة، الا ان ذلك لا يمنع ان يكون لكل طرف اهدافه المستقبلية الخاصة به، اميركا لاعادة رسم المنطقة وفق خرائط تناسبها، اما هذه التيارات، فلأن الفوضى هي البوابة للتغلغل في المنطقة تمهيدا لاستنهاض « الامة» ومن ثم الوصول الى اقامة «الخلافة الاسلامية العظمى».
ان العمل لنشر الفوضى «واستنهاض الامة» او الانطلاق في مرحلة «الافاقة» او مرحلة «الشوكة والنكاية» ومراحل «فتح العيون» او «ادارة التوحش» (كلها تسميات اطلقها المنظرون «الجهاديون»)، ان هذه الاعمال ليست وليدة الصدفة بل هي وضعت بدقة وصيغت بعناية من قبل هؤلاء المنظرين ضمن دراسات استراتيجية مستقبلية. وهو ما سنقدمه في هذا السياق.
نستعرض في هذه الصفحات اوراقا ثلاثا لكتّاب ثلاثة، تشترك فيما بينها انها تحدثت عن خطط مستقبلية للجماعات «الجهادية»، بعضها كان مجرد تعداد للمراحل التي ستعمل عليها هذه التنظيمات دون الدخول في تفاصيل المراحل واساليب العمل التي ينبغي الأخذ بها، فيما البعض الآخر دخل الى هذه الاساليب وقدم خططا وادوات، مقاربا القضايا من خلال تجارب تاريخية، مبينا نقاط القوة ونقاط الضعف في كل مقترح يقدمه.
ليس الهـدف من هذه المقـالات التي نكتـبها هو اســتعراض هذه الكتب و تقديمـها للقارئ كما يتم عـادة عرض اي كتاب، وانما نهدف الى امرين:
الاول: تسليط الضوء على نقطتين هامتين في اطار ما يجري في المنطقة وهما: الفوضى العارمة، وتهجير الاقليات. لنكشف، من خلال هذه الكتابات، ان الفوضى والتهجير ليسا وليد الصدفة، ولا هي أعمال انفعال تقوم بها مجموعات معينة، كما انه لا يأتي نتيجة «فتوى تكفيرية» فحسب، بل هو فعل مقصود له طابع جيوسياسي، تم التخطيط له في اطار رؤية عامة وقراءة تاريخية عند هذه الجماعات.
الثاني: تبين الأدلة، ان هذه المجموعات ليست عشوائية في عملها، بل هي تخطط، تفكر، وتعمل جاهدة للوصول الى اهدافها. وبالتالي فان من يريد ان يواجهها عليه قبل ان يخطط، ان يقرأ هؤلاء بهدوء وبعقل بارد.
الفوضى العارمة والكتب الثلاثة:
1- ابو مصعب الزرقاوي الجيل الثاني لـ: «القاعدة»
كتاب الفه الاردني فؤاد حسين العام 2005. وفي الاصل دوّن هذا الكتاب بهدف تسجيل شهادات لمن رافق وعايش مؤسس «الدولة الاسلامية في العراق» احمد فضيل الخلايلة (ابو مصعب الزرقاوي). لكن الكاتب تحدث في نهاية كتابه عن خطة تنظيم «القاعدة» تحت عنوان «استراتيجية القاعدة (الزرقاوي الجيل الثاني للقاعدة، ص88).
يذكر الكاتب ان هذه الخطة مبنية على كون مفكري «القاعدة الكبار، أتيح لهم فرصة الاطلاع على تاريخ وتجربة الحركة الإسلامية الواسعة والممتدة عبر قرنين من الزمن، ابتدأ بحركات التصحيح الكبرى التي تمثلت بالحركة الوهابية في نجد والحجاز، الحركة السنوسية في ليبيا، الحركة المهدية في السودان وحركات تجارب الجهاد الإسلامي الحديث التي تصدت لقوى الاستعمار في المغرب العربي وكذلك في مشرقه، وصولاً إلى الحركات الإسلامية المعاصرة، كحركة «الاخوان المسلمين» و«حزب التحرير الإسلامي»، وتجربة «الجماعة الإسلامية» في الهند والباكستان، علاوة على اطلاعهم على تجربة جمال الدين الأفغاني وتلميذه محمد عبده التي تمثلت بفكرة الجماعة الإسلامية، وصولاً إلى تجارب الجهاد الإسلامي وحركات التغيير المنبثقة عنها في مصر وفلسطين وأفغانستان ومناطق أخرى» ( المذكرة الاستراتيجية، ص 88).
وعلى اي حال فان هذه الخطة مؤلفة من سبع مراحل تبدأ بما يسمى بمرحلة الافاقة وتنتهي بمرحلة الانتصار.
لن يصعب عند قراءة هذه المراحل ملاحظة الفوضى المقصودة لانه من دونها لن يتسنى الوصول الى مرحلة فتح العيون (الثانية) او مرحلة النهوض (الثالثة) فضلا عن الوصول الى مرحلة استعادة العافية وامتلاك القوة (الرابعة).
وهذه الفوضى المقصودة لا بد من ان تبدأ مع بداية المرحلة الاولى التي هي مرحلة الافاقة والتي وصفها الكاتب وفق ادبيات القاعدة ومنظريها بانها قد بدأت مع احداث الحادي عشر من ايلول. (المراحل السبع على التوالي هي: 1- الافاقة ـ 2 ـ فتح العيون (بدأت مع الدخول الاميركي العام 2003، ومن المفترض ان تنتهي العام 2006) ـ 3 ـ النهوض (تنتهي العام 2010) -4- استعادة العافية وامتلاك القوة (تنتهي العام 2013)- 5- اعلان الدولة (تنتهي العام 2016)- 6- المواجهة الشاملة ـ 7 ـ الانتصار (لم يحدد سنة محددة لتوقع الانتصار).
2- المذكرة الاستراتيجية:
وهي دراسة كتبها عبد الله بن محمد عام 2011 اعتبرها بمثابة خطط عمل لا بد «للجهاديين» من اتباعها لتحقيق اهدافهم.
ينطلق الكاتب من فرضية يرى أنها قابلة للتحقق وهي ما اطلق عليه اسم «الفوضى العارمة» ويقدم الكاتب اسباب ذلك بان «ضريبة النزاعات السياسية والعسكرية في مثل هذه الحالة ستكون على حساب الأمن ولقمة العيش وهذا ما سيجعلنا نشهد هجرات كالتي حدثت من فلسطين ومجاعات كالتي حدثت في الصومال ومذابح كالتي حدثت في البلقان، والحقيقة أن الأحداث الأخيرة في سوريا قد جمعت مسبقا بعض هذه المشاهد المؤلمة كمقدمة لا تبشر بخير عن عنف هذه المرحلة. وفي اعتقادي أن المجتمع الدولي سيعجز عن التعامل مع هذا الحجم التاريخي من الفوضى بل سيفشل في احتواء تأثيراته فيه..» (المذكرة الاستراتيجية، مؤسسة المأسدة الاعلامية،2011م، ص7).
امام هذه «الفوضى العارمة» ينطلق الكاتب ليجيب عن سؤال ثلاثي الابعاد: ما هو الدور الذي يمكن أن يلعبه التيار «الجهادي» في هذه المرحلة الخطيرة من عمر الأمة؟ وما هو المشروع الذي يمكن أن يدخل فيه هذه المرحلة؟ وما هي فرص نجاحه؟
محور هذا الكتاب هو الاجابة عن هذه الاسئلة الثلاثة والتي يقدم لها الكاتب بالقول: «في البداية أقول، إن في ظل هذه الفوضى المرتقبة لن يكتب للمشاريع الجزئية أي فرصة للحياة في الأوضاع الجديدة فإن أضفنا إلى ذلك أن حجم التواجد الذي يحققه التيار الجهادي في البلدان العربية متواضع جدا، ومبعثر، فهذا يجعل من أي جهد مستقل هباء منثورا ولا أقصد هنا ترك العمل باستراتيجية الجهاد العالمي وضرب الحلف الصهيو صليبي في أي مكان فهذه مسألة سيأتي الحديث عنها إن شاء الله وإنما المقصود هنا هو البحث عن أفضل وأكمل الاستراتيجيات للدخول في هذه المرحلة واستثمار ظروفها الطارئة فهذه هي التي ستضيع فيها الجهود المستقلة إن لم توظف في هدف عام» (المذكرة الاستراتيجية، ص8).
تحدث عبد الله بن محمد عن ثلاث مراحل تبدأ بما يسمى «بالمصاولة» ومن ثم « الفوضى العارمة» ليصل بعدها الى اعلان الخلافة او الدولة الاسلامية.
3- ادارة التوحش:
كتاب دوّنه المدعو ابو بكر ناجي. ولم تتضح السنة التي دُوّن فيها.
ويعرّفه بأنه «عبارة عن خطوط عريضة لا تعنى بالتفاصيل وإنما تترك التفاصيل لفريقين، فريق المتخصصين في الفنون التي تتحدث عنها الدراسة وفريق قـيادات الواقـع في مناطـق إدارة التوحـش، وعنـدما تـأتي بعض التفاصيل في ثنايا الدراسة فإنما تأتي لأهميتها أو كمثال لشحذ الذهن». (ادارة التوحش، مركز الدراسات والبحوث الاسلامية، ص5).
والسؤال الاول الذي يطرح هنا هو: ما المقصود من التوحش او من ادارة التوحش؟
انها ببساطة: اي دولة تنهار ولا تقوم دولة اخرى بالسيطرة عليها وادارة شؤونها فان هذه المناطق التابعة للدولة المنهارة تقع تحت اصطلاح «ادارة التوحش» وباختصار شديد ادارة التوحش هي: «ادارة الفوضى المتوحشة» (ادارة التوحش، ص 12).
ان ادارة التوحش، وفق كلام الكاتب، هي «المرحلة القادمة التي ستمر بها الأمة، وتعد أخطر مرحلة فإذا نجحنا في إدارة هذا التوحش فستكون تلك المرحلة – بإذن الله – هي المعبر لدولة الإسلام المنتظرة منذ سقوط الخلافة، وإذا أخفقنا – أعاذنا الله من ذلك – لا يعني ذلك انتهاء الأمر ولكن هذا الإخفاق سيؤدي لمزيد من التوحش» (ادارة التوحش ص5).
لكن الكاتب يستدرك ان زيادة التوحش الناتج من الاخفاق لا يعني «أنه أسوأ مما هو عليه الوضع الآن أو من قبل في العقد السابق (التسعينيات) وما قبله من العقود، بل إنَّ أفحش درجات التوحش هي أخف من الاستقرار تحت نظام الكفر بدرجات» (ادارة التوحش، ص5).
ما يعنينا هنا ان هذا الكتاب يشترك مع سابقيه بتقسيم العمل الى مراحل. ويركز الكاتب على المرحلة الثانية والتي هي مرحلة التوحش وكيفية ادارتها.