صفحات الثقافة

إدانة أدونيس وتَبْرِئَة سقراط


صلاح بوسريف

في الوقت الذي كانت آثينا تعمل على النظر في ما وُجِّه لسقراط من تُهَم، تعود إلى ما قبل زمننا بآلاف السنين، وكان القُضاةُ، والمُحامون ينتمون إلى أكثر من دولة غربية، ممن تَمَرَّسُوا على الديمقراطية، وحقوق الإنسان، والحق في الرأي والاختلاف، كان بعض مَنْ ينتسبون لـ ‘ الثورة ‘ السورية، أصْدَروا حُكْمَهُم بالقتل على الشاعر العربي أدونيس، واعتبروه، مثلما حدث مع سقراط، من قبل، طَعَنَ في ‘ الآلهة ‘، وشكَّك في وجودها، ونسبوا موقفه مما يجري في سوريا، إلى نفس موقف النظام، بما يشي، أو يُشير إلى تهمة الخيانة، ومساندة النظام.

حَكمت آثينا، رغم اختلاف رأي القُضاة وتنازُعِهِم بشأن آراء سقراط، على سقراط بالبراءة، ما يعني أنَّ سقراط، بريء، وأن ما جرى بشأنه، في الماضي كان ظُلْماً، وإدانةً لفكرة، كان من الممكن وضعها في سياقها الفلسفي، والنظر إليها باعتبارها وجهة نظر، أو قراءة ضمن قراءات أخرى، فيها كان الفيلسوف، أو المفكر، يحاول أن يفهم ما يجري حوله، أو إعادة قراءة الواقع، ليس بنفس فكر المؤسسة، بل بفكر حُرٍّ، قَلِق، لا يطمئن للفكر العام والسائد، الذي هو من قبيل المُسَلَمات، أو ما هو بديهي، لا يقبل النقاش.

حدَث هذا مع فلاسفة ومفكرين وشعراء وفنانين، وفقهاء، صدرت في شأنهم أحكام، كانت في جملتها، أحكاماً قاسيةً، منها ما كان قتلاً، ومنها ما كان حرقاً، أو تعذيباً إلى حدّ الموت.

ويمكن، في هذا الصدد، الإشارة إلى ما وقع لشارل بودلير، الذي أدانت المحكمة ديوانه ‘ أزهار الشر ‘، واعتبرته منافياً للأخلاق العامة، وفيه انحراف عن السلوك العام، ليعود القضاة، بعد مرور قرنٍ من الزمن، تقريباً، لاعتبار هذا الحُكم باطلاً، والسماح بتداوُل الديوان، وإعادة نشره.

أصبح ‘ أزهار الشر ‘ كتاباً يُدَرَّسُ في الجامعات والمدارس الثانوية، وأصبحت نصوصه بين ما يُتيح للطلبة والتلاميذ والباحثين، وقُرّاء الشِّعر، أن يُعيدوا تقويم رؤيتهم للشِّعر، ولكثير من القيم الجمالية والفكرية التي عَمِل شارل بودلير على إعادة صياغتها وفق رؤية حداثية، ووفق فكر ليس هو نفس الفكر الذي كان رَوَّج له من سبقوه من الرومانسيين، بمن فيهم شاعر فرنسا الكبير فيكتور هوغو.

هذا ما حدث مع سقراط. فهو في دفاعه عن نفسه، أشار إلى هذا المستقبل الذي سيكون عادلاً معه، وسيكون إدانةً، في نفس الوقت، للذين تآمروا عليه، واعتبروه خارجاً عن نظام المدينة، وشرائعها.

كنتُ في ديوان ‘ حامل المرآة ‘ وقفتُ عند سقراط، واعتبرتُ ما حدث له، هو من قَبِيل الـ ‘ كوميديا ‘، في إشارة إلى موقف أرسطوفان من سقراط، وما أصدره من أحكام ضدّه، قبل موته بعشرين سنة، في إحدى مسرحياته.

وإذا أردتُ أن أعود للثقافة العربية، فسيكون من الصعب حصْر قوائم الكُتّاب والشُّعراء والفقهاء، الذين حوكموا نتيجة أفكارهم. وأدونيس في ‘ الكتاب ـ أمس المكان الآن ‘ كان من خلال المتنبي، وقف عند كثير من هؤلاء، ممن وَرَدُوا في سياق هذا التاريخ الواقع بين ولادة المتنبي واغتياله.

ويمكن أن أُشير أيضاً، إلى طرفة بن العبد، وإلى عبد الله بن المقفع، وبشار بن بُرد، وابن حنبل، وابن مقلة، الذي قُطِعَت يده، وهو من كان كتب عدداً من نُسخ القرآن، وتألَّم لِما حدث له، في سؤاله المعروف، وهو سؤال إنكاريّ، طبعاً، حين تساءل؛ كيف ليَدٍ كَتَبْتُ بها القرآن، تُقْطَع مثلما تُقْطَع أيدي السُّرَّاق ؟

في زمننا هذا، عاش علي عبد الرازق نفس المحنة، في محاكمة كتابه ‘ الإسلام وأصول الحكم ‘، وهو ما سيواجِهُه طه حسين في كتابه ‘ في الشعر الجاهلي ‘، واغتيال فرج فودة، ومحاولة ذبح نجيب محفوظ، بالتهمة نفسها؛ المس بالدِّين، أو بالتعبير اليوناني القديم، المس بـ ‘ الآلهة ‘. ومحاكمة حامد أبوزيد، والشاعر حلمي سالم، عن ‘ شرفة ليلى مراد ‘، واللائحة طويلة، يصعب حصرُها، في كاتب دون آخر، أو في زمن دون غيره.

قتل أدونيس، أو إدانته، بهذا النوع من الترهيب، هو تعبير عن خللٍ ما في رؤية الأشياء، أو النظر في الأفكار.

كان أدونيس في لقائنا بمدينة الرباط قبل أيام، سألني عن هذا الأمر بالقتل، فلم أجبه، لأنني لم أكن اطلعتُ بعد على هذا المنشور، لكن حين عُدت للبحث في بعض المواقع الإلكترونية، وجدتُ فعلاً، ما يؤكِّد هذا الحُكم، وهو ما كانت الصديقة عبلة الرويني، أدانَتْه، في عمودها بجريدة ‘ أخبار الأدب ‘، واعتبرتْه، يتنافى مع منطق الثورة، التي هي، في جوهرها، إدانة للقتل، والنفي، ومصادرة الرأي الآخر، مهما تكن درجة اختلاف هذا الرأي عن رأينا، واختلاف هذا الفكر عن فكرنا.

حين نكون غير قادرين على مسايرة أفكار الآخرين، أو مناقشتها بالعقل والمنطق والحُجَّة، غالباً ما نذهب إلى هذا النوع من المصادرات، وإلى استعمال العُنف، بمختلف أشكاله، بما فيه العنف الرمزيّ.

شخصياً، كنتُ اختلفتُ مع أدونيس في ما صدر عنه تجاه الثورة، وكتبتُ رسالةً له، نُشِرَت بجريدة القدس العربي، فيها قلتُ ما رأيتُه في غير صالح أدونيس، فكان جواب أدونيس واضحاً في الأمر، وتأكيداً على ما يختلف فيه مع المعارضة، في ما هو يؤكد أنه مع الثورة، لكن بدون استقواءٍ بالأجنبي، ولا باستعمال السلاح.

هذا رأي، مهما يكن، يبقى رأي شاعر ومفكر وإنسانٍ، علينا الاستماع إليه، وتأمُّله، في ضوء ما جرى في العراق وفي ليبيا، مثلاً، وفي ضوء المعطيات الجديدة التي أفرزتها الثورات العربية في تونس وفي مصر، وما جرى في المغرب بصعود الإسلاميين للحُكْم.

ما يجري، ليس تمرُّداً، وهو التعبير الذي يستعمله أدونيس، وأنا لا أقبله، كون التمرّد لغة، يشي بوجود طاعة سابقة، وهذا ما لم يحدث في ما كان يجري في علاقة الحاكمين بالمحكومين، في نظام الحكم العربي. فالقهر والقمع كانا هما ما يحكم علاقة الحاكم بالمحكوم، ما يجعل من تعبير التمرد، لا يفي بالمعنى الذي ذهب إليه أدونيس، وغيره ممن تبنوا هذا المفهوم.

إنها ثورات، لكنها ثورات بالمفهوم العربي، ثورات دون نظرية سابقة عليها، ودون قيادات، ولا زعامات، ولا أحزاب، الشعب هو من خرج ليقول لا للقهر، ولا للفقر، ولا لحكم الفرد الواحد. هذا ما يجعل من مفهوم الثورة الذي عرفناه من قبل لا يصلح لقراءة ما يجري عندنا.

لكن أن نترك النقاش، والحوار، والاستماع للآخرين، دون مصادرة أو إلغاء أو تخوين، هذا ما يجعل منا نستبدل إرهاباً بإرهاب، وقتلاً بقتل، واستفراداً باستفرادٍ، وهو ما لا يمكن لشباب الثورة في سوريا، بكل أطيافهم، أن يقبلوه، لأن أدونيس، وغيره ممن كانوا يعملون من خلال كتاباتهم، منذ أزيد من أربعة عقود على تغيير الفكر، وعلى تحديث الرؤى والمواقف، وتكريس فكر الاختلاف والتناظُر الحر، ونقد الماضي، باعتباره فكراً ونظراً، وإعادة النظر في طبيعة الإنسان، وفي رؤيته لنفسه وللآخرين، لا يمكن لمن كان يُفَكِّر بهذه الطريقة أن يكون ضدّ الثورة، وضد التغيير، فهو، بطبيعته، مُبْتَدِع، ، أو كما يقول سلامة موسى فـ ‘ كل تقدم للإنسان مصحوب ببدعة، ولولا ذلك لَما تَمّ اختراع أو اكتشاف ‘.

الاختلاف ليس في المبدأ، بل في الطريقة، وهذا لا يمكنه أن يكون مُسَوِّغاً للحكم على أدونيس، وعلى غيره، من المختلفين، بالقتل والإبادة.

لنتأمَّل هذا الحُكم الرحيم الذي صدر في حق سقراط، وصدر قبل ذلك، في حق بودلير، كما صدر في حق طه حسين، الذي أصبح كتابه مُتاحاً يقرأه الجميع، فهو كفيل بأن يجعلنا نتنازل عن شوفينيتنـا، وعن انغلاقنـا الفكري والعقائـدي، الذي هو فـي أساسه، ما جعل من حزب البعث في العراق وفي سوريا، يصبحُ عقيدةً، وديناً، بما هو أسوأ من الدِّين، حين يصبح قراءةً تتنافى مع الدِّين نفسه، أو تقرأه بطريقة عمياء.

ما يحدث لأدونيس، هو ما يمكن أن يحدث لكل من ينتصر للاختلاف، وينتصر لفكر الحداثة والتنوير، خصوصاً أنّ الذين يَسْتَوْلُون اليوم على إدارة شؤون الدولة، في البلاد العربية، هم أشخاص لا يفهمون في السياسة، ولا في الدِّين، بل هُم أشخاص جاؤوا بِدِينٍ، ليس هو الدِّين الذي عرفناه، ولا هو الدِّين الذي كان، في كثير مما جاء به، استمراراً لِما قبله، ولمْ يَجُبَّه، وهو نفسه كان ‘ ثورةً ‘ على ما كان قبله. فكيف يمكن لثورة أن تتحوَّل إلى جَمادٍ، وإلى صَخْر، وأن تصير نوعاً من الآلهة الجديدة التي لا إلهَ إلاَّها.

فالثورة هي تجديد، وهي صيرورةٌ، وطريق يفتح طُرُقاً ومسالك، أو هي بالأحرى، مقدمة لانتقالات متوالية، ولقيمٍ جديدة، الإنسانُ هو من يخلقُها، ويؤسِّس لها، أو يبني أفكارَها، ما يجعلها تكون نسبيةً، وليست أحكاماً، أو فكراً كاملاً، نهائياً، ليس له ما قبله.

فتحويل الثورة إلى دينٍ معناه، تثبيتُها، وحَرْفُها عن سياقها، مثلما يفعل الأمير، بتعبير ميكيافيلي، فهو يحمي الدِّين، حتى ولو كان غير مؤمن به، لأنه يساعده على فرض سلطته، وتثبيت نظامه.

القدس العربي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى