صفحات مميزة

إدلب… الأمل المفقود في ريف سورية المدمَّر


ما زال العالم يأمل نجاح جهود موفد الأمم المتحدة كوفي عنان في سورية. إلا أن قوات النظام عاثت بمحافظة إدلب السورية الشمالية الغربية خراباً ودماراً، فما عاد أحد من سكانها يعتقد أن السلام ممكن. يروي أحد صحافيي «شبيغل» ما رأى في هذا الريف الذي مزقته الحرب.

تمتد إلى الأفق البعيد أشجار الزيتون بأوراقها البراقة النضرة، وينبت الصعتر في كل مكان، غير أن الجو يعبق برائحة الموت. يخبر أحد المزارعين: «أطلقوا النار حتى على الأبقار». فترى اليوم الجيف التي تغزوها اليرقات ممدة خارج القرية. يضيف: «أطلقوا النار على كل شيء: الناس، البهائم، والمنازل. حتى إنهم سحقوا حقول البطاطا بدباباتهم».

طوال أشهر، ظلَّ الوضع هادئاً في قرية البشيرية، التي تقع في أعلى الشمال الغربي السوري الذي يشبه منطقة توسكانا ببساتين الزيتون والأشجار المثمرة الممتدة نحو الأفق. افتخرت هذه القرية بأن قناة «الجزيرة» الإخبارية أتت على ذكر التظاهرات التي ملأت شوارعها. عاد بضعة جنود انشقوا والتحقوا بالجيش السوري الحر إلى قريتهم لحمايتها ببنادقهم الرشاشة، وقد اعتقدوا لوهلة أن هذا أمر ممكن.

لكن حين ظهرت الطائرات المروحية فوق قمة التلة بعيد التاسعة صباحاً في التاسع من أبريل الفائت، ما كان في أيديهم حيلة غير الهرب. أحرق وابل من الصواريخ المنازل، فيما راح جنود النظام يلاحقون القرويين الهاربين ببنادقهم الرشاشة، فأصابوا كل مَن لم يتمكن من الاختباء تحت الأشجار. حتى إنهم قضوا على قطيع من الخراف.

وصلت الدبابات بعد لحظات، مطلقة النار عشوائياً عن بعد مئات الأمتار عن القرية. ووراءها وصل الجنود الذين داهموا المنازل ونهبوها مضرمين النار في أكثر من مئة منزل. تتذكر أديبة يوسف (70 سنة)، الوحيدة بين أفراد عائلتها العشرة التي لم تهرب: «دخلوا المنزل وجرونا إلى الخارج، ثم صبوا مادة ما في الداخل وأشعلوا النار. لا أريد الموت خارج قريتي». لم يتبقَّ لها سوى غرفة فيها فراش، أغطية، أطباق، ومرطبان مليء بالزيتون قدمه إليها أناس من قرية مجاورة. عندما اقتحم الجيش القرية في المرة السابقة في شهر نوفمبر، لم يستهدف إلا منازل عائلات المنشقين. بيد أن اعتداءاته باتت اليوم أكثر عشوائية. تتابع يوسف: «ماذا يريدون منا؟ لم نتعاطَ يوماً السياسة».

يذكر أحد الجيران أن الجيش هدَّد بإشعال المنطقة بأسرها. يقدّم لنا الماء في كوب بدّلت الحرارة شكله، ثم يردف: «وهذا ما يفعلونه بالتحديد». يخبر أن الجنود راحوا يصيحون مؤكدين لهم أن هذه ما هي إلا البداية وأنهم تابعوا قائلين: «انتظروا ريثما نعود. ما من إله غير بشار الأسد».

الجيش الحر

ظل الجنود في القرية يوماً ونصف يوم، وبعد الانتهاء من إشعال المنازل، أضرموا النار في سيارات المزارعين ودراجاتهم النارية وأبراج الحمام والمتاجر. كذلك، أطلقوا النار على خزانات المياه على أسطح المنازل، محدثين فيها الثقوب. وفيما كانوا ينسحبون، تركوا بطاقة تعرّف عنهم بوضوح. كتبوا على جدار بأحرف يصل ارتفاعها إلى متر عبارة «لواء الموت». هذا الاسم الذي اتخذه اللواء السادس والسبعون في القوات المسلحة السورية لنفسه، وقد دوّنه بأحرف ضخمة، كفيلة لوحدها بأن ترعب السكان.

تحيط 28 حجر بناء كتبت عليها أسماء القتلى بتلة تراب حديثة خارج القرية. يذكر رجل يعيش قرب المقبرة وفي صوته نبرة أسى: «لم ندفن سوى مَن تمكنا من استرجاع جثثهم». اختبأ هذا الرجل مع عائلته خلال الهجوم داخل غرفة قبر قديمة في الأرض.

عمَّ الهدوء البشيرية بعد انتهاء الاعتداء، فقد هرب نصف سكانها السبعة آلاف. أما الباقي، فيواصلون حياتهم كما لو أنهم يعيشون في حالة من الضياع في بلد أعلن فيه النظام الحرب على الشعب. ويبدو أن النظام خسر هذه الحرب في بعض نواحيها. فإن قمت بجولة في قرى محافظة إدلب الشمالية الغربية، تمرّ في مناطق يعيش سكانها في حالة من القمع، إلا أنهم ما عادوا خاضعين لسيطرة الحكومة.

يبسط النظام سيطرته على المدن، ويصبّ العالم اهتمامه على ما يحدث فيها. فتدعو خطة السلام التي طرحها موفد الأمم المتحدة الخاص كوفي عنان الرئيس السوري بشار الأسد إلى سحب قواته من حمص، حماة، وضواحي دمشق، مطلب لم يلتزم به النظام بعد. كذلك، تكثر التقارير اليومية عن مناوشات واعتداءات مميتة يومية. ويبدو أنه ستمرّ بضعة أسابيع إضافية قبل أن يتمكَّن كل المراقبين الثلاثمئة، الذين تخطط الأمم المتحدة لنشرهم في سورية، من تسلّم مواقعهم في هذا البلد. لكن ما الذي يستطيع ثلاثمئة شخص فعله في المدن المحاصرة؟ ماذا سيحققون في الريف، وأي قرية من آلاف القرى السورية سيقصدون؟

اختفى الخوف من مخبرين الدولة الواسعي الانتشار في القرى، حيث صار الجميع يعبِّرون عن رأيهم وسائقو الجيش السوري الحر يدوّنون «الجيش الحر» على زجاج سياراتهم الخلفي الوسخ. يظلّ الحراس يقظين عند مداخل القرى، في حين يتمركز الكشافة على قمم التلال. يُعتبر جيش سورية الحر خليطاً عجيباً. ففي الريف، يتألف ثلثا جيش الثوار من منشقين عادوا إلى قراهم. وقلما تعثر بينهم على غرباء من دمشق أو حلب. كذلك، لا ترى أي دليل على وجود أي مجاهدين أجانب. أما في ما يتعلق بالأسلحة الثقيلة، فلا تملك كل قرية أكثر من بضع بنادق رشاشة وقاذفات قنابل. فضلاً عن ذلك، ما من بنية قيادية غير التعليمات التي تصلهم عبر الجهاز اللاسلكي. على رغم ذلك، لم تتحول هذه القوات التي تتفشى فيها الفوضى على ما يبدو إلى ميليشيات متقاتلة، فالثوار موحدون في مقاومتهم نظاماً يزرع المزيد من الحقد والكره في كل منطقة يسعى إلى إخضاعها.

الحياة تتواصل

تسعى المجالس في مختلف القرى إلى سد حاجات الناس إلى الكهرباء، الحفاظ على إمداد المياه، وتطبيق القانون. تنظم لجان عمليات توزيع الوقود والطعام، فضلاً عن نقل الجرحى إلى دولة تركيا المجاورة. أما شبكة الهاتف الخليوي التي قطعت في معظم المناطق قبل أشهر، فقد استبدلت بأجهزة لاسلكية أو هواتف تعمل عبر الأقمار الاصطناعية هرّبت عبر الحدود. كذلك، يلجأ البعض إلى الحمام الزاجل. لا تزال شبكة الهاتف الأرضية صالحة، لكن قليلين يملكون هاتفاً أرضياً. صحيح أن الممر الإنساني الذي اقتُرح مراراً على طول الحدود التركية لا وجود له، لكن يتوافر ممر هاتفي على الأقل، بما أن شبكة الهواتف الخليوية اللاسلكية التركية تغطي نحو 20 كيلومتراً داخل الأراضي السورية.

قد يعود الجنود في أي وقت، وما زال مكان كثيرين من المخطوفين مجهولاً، في حين تظهر دوماً جثث مجهولة الهوية في الجداول الجافة والحقول. على أطراف قرية سرمين، التي تبعد 500 متر فقط عن مركز القوات الحكومية، عثر المزارعون على جثث ثمانية رجال وامرأة في خزان قديم. كانت أيديهم وأرجلهم موثوقة، وقد قتلوا بطلقات نارية في الرأس. كان المزارعون يعملون على انتشال الجثث، حين ظهرت طائرة مروحية، ففروا. في اليوم التالي، سوّت الجرافات الأرض في تلك المنطقة، فما عاد هنالك أي أثر لتلك الجثث.

تظهر على طول الدروب والممرات دوماً خنادق طويلة نبشت حديثاً، وتتكدس قربها شواهد القبور الفارغة استعداداً لقتلى الهجوم التالي.

على رغم ذلك، تتفاجأ حين تلاحظ أن الحياة اليوم تتواصل بشكل طبيعي، فقد تقلَّص عالم سكان القرى ليقتصر على المناطق المحيطة. حتى بات الناس يسألون الزوار عما يدور في المناطق خلف التلال. يواصل المزارعون غرس حقولهم، مع أنهم غالباً ما يقودون جراراتهم قرب بقايا سيارات محترقة. يجلس المسنون في ظل عريشة وهم يرتشفون الشاي المحلى بالسكر، في حين ينظم السكان حجارة المنازل المحترقة ويغطونها بطبقات جديدة من الطلاء الأبيض.

ستستمر حياتهم على هذه الوتيرة، على الأقل إلى أن يعود «لواء الموت». على غرار أعضاء بعض حملات التخريب في القرون الوسطى، يتنقل الجنود المجهزون بأسلحة عصرية عبر محافظة إدلب، مهاجمين القرية تلو الأخرى لينسحبوا منها بعد يومين. هاجموا سرمين وتفتناز في الشرق في أواخر شهر مارس، دير سنبل في الجنوب في مطلع أبريل، والكستن والعين السوداء في الغرب نحو منتصف أبريل. تتخذ الاعتداءات عادة الطابع ذاته، فتظهر الطائرات المروحية لتليها الدبابات وأخيراً الجنود الذين يشعلون النار في المباني. ويأخذ الجنود أحياناً أسرى، ويكتفون أحياناً أخرى بقتل الناس.

جبل جليد يذوب ببطء

هاجم لواء الموت قرية كورين جنوب عاصمة محافظة إدلب في أواخر شهر فبراير. في الصباح الباكر، أطلقت الدبابات النار على مدرسة بالكاد تمكَّن تلامذتها، الذين تملكهم الذعر، من الفرار. ومضت فترة طويلة قبل أن يتجرأ الأهل على إرسال أولادهم مجدداً إلى المدرسة، التي يديرها محمد عجيني. ففي نهاية شهر أبريل، عاد نحو مئتين من التلامذة الثلاثمئة والاثنين السابقين إلى المبنى شبه المدمر.

لكن زيارتنا إلى هذا المدير الشجاع أتت في وقت غير مناسب البتة بالنسبة إلى عجيني. كان يجلس في مكتبه وأمامه مجموعة من الطلبات، وكان يخاطب شخصاً ما عبر الهاتف. راح يسأل: «من سيوافق عليها إذاً؟». يتخبط عجيني وسط ظروف غريبة لأن الحكومة ذاتها التي أمرت بتنفيذ الهجوم على المدرسة لا تزال تسدد رواتب المدرسين، ويُفترض بها راهناً الموافقة على طلبات لوازم وكتب مدرسية جديدة. لا يعرف عجيني السبيل الأفضل للتعاطي مع هذا الوضع. يمكن تشبيه هذا النظام بالمسمار الذي يبقي صورة الأسد عاليةً على الجدار خلفه. فالخوف منه منغرز عميقاً في رأس هذا المدير الذي راح يبتسم بخوف ليرفض بعد ذلك التقاط أي صور له ويتوقف عن الكلام.

يبدو هذا الوضع غريباً أيضاً في نظر قريبه عزيز عجيني، محاضر سابق باللغة الإنكليزية في جامعة إدلب وشخصية معروفة في هذه القرية. يمتاز عزيز بنقده اللاذع ولا يتوقف عن التدخين. ومع أنه اعتقل مرتين، إلا أنه نجح في الفرار والعودة إلى قريته لأن كثيرين من أبناء مسؤولي أجهزة الاستخبارات وبناتهم كانوا من بين تلامذته.

جمع عزيز روايات أهل القرية كافة عما حدث يوم الاعتداء. يخبر: «كان يفترض بالجنود أن يرسموا مثالاً لما قد يحل بالقرى الأخرى. قطعت إحدى المجموعات عنق أحد الرجال، ثم ربطت رجلاً آخر بسيارة. وحرقوا كل ما لم يستطيعوا نهبه. أتت بعد ذلك مجموعة أخرى، فدخلت المنازل واعتذرت عما حدث وتصرفت كما لو أنها لا ترى البنادق الرشاشة المخبأة وراء الوسادات». راح عزيز يفتح ورقة مطوية مزقها من دفتر ملاحظات ودوَّن عليها بالتفصيل أسماء جنود لواء الموت كلهم ورتبهم. يضيف: «يشبه جيش الأسد جبل جليد يذوب ببطء».

لا يفهم عزيز لمَ يراقب العالم ما يحدث في سورية من دون أن يحرك ساكناً، يقول: «بموقفهم هذا يشجعون أموراً يخشونها بقدر ما نخافها نحن»، خصوصاً اندلاع حرب أهلية عقب سقوط الأسد. ويتابع موضحاً أن النظام يحاول تبرير أفعاله، مدعياً أن بين الناس عناصر سيئة من الضروري محاربتها، وأن سائر أفراد الشعب ما زالوا أولياء له. لهذا السبب، على حد قول عجيني، تطلق قوات الحكومة النار على المدارس وتسدد رواتب المعلمين في آن، أو تهاجم قريته من دون أن تقطع عن القرويين الطحين اللازم لتأمين الخبز اليومي.

ترقب وانتظار

يؤكد الجميع أنهم يريدون تفادي الحرب الأهلية، لكن ما السبيل إلى ذلك في حين أن كل جنود النظام ومجرميه من العلويين والضحايا من السنة؟ كيف ذلك والرغبة في الانتقام تتأجج مع كل موجة قتل جديدة؟ يذكر صيدلي في قرية مرتين: «إذا خسر رجل ابناً، يمكن إقناعه بالعدول عن الانتقام. لكن إذا خسر ولدين، يصعب ذلك. ويصبح مستحيلاً إن فقد ثلاثة. قرأت عما تمكن المهاتما غاندي من تحقيقه في الهند، وأعجبت بقدراته. لكن ما كان ليحل به لو كان هنا؟ لوجدناه مقتولاً ومرمياً في أحد الحقول في غضون أقل من أسبوع».

خلال إحدى رحلاتنا على طول الممرات الترابية، قال مقاتل تابع للجيش السوري الحر كان يجلس في المقعد الخلفي: «ما إن يسقط النظام حتى نقتل العلويين كلهم». فالتفت إلينا السائق بسرعة وصاح: «لا تصغوا إليه! لا نريد إراقة الدماء!». ثم بدأ يصرخ في وجه المقاتل، قائلاً: «ماذا عن العلاويين جيراننا الذين لم يلحقوا بنا الأذى؟ هل تريد قتلهم كلهم؟». وساد الصمت.

لا أحد يعرف ما يخبئه المستقبل، إلا أن كثيرين ما عادوا يؤمنون بنجاح خطة السلام التي طرحها كوفي عنان. على رغم ذلك، وعد الجيش السوري الحر بالالتزام بوقف إطلاق النار الذي دعت إليه الخطة.

تتكدس في غرفة الجلوس في منزل عزيز قاذفات القنابل، فضلاً عن بندقية رشاشة. يقول: «أحتفظ بها كتدبير احترازي في حال راودت شخصاً ما أفكار جنونية». في هذه الأثناء، يلاحظ الكشافة أن جيش الأسد لا يعيد دباباته إلى السكنات، بل يخبئها عن أنظار مراقبي الأمم المتحدة في بساتين الزيتون والمقالع أو بين الأبنية في منطقة إدلب الزراعية.

كانت آخر أيام شهر أبريل الأكثر هدوءاً منذ أشهر، فلم يعد لواء الموت إلى القرى. على رغم ذلك، يشعر القرويون أن هذا ليس سوى هدوء ما قبل العاصفة. وبما أن أسلحته قليلة وغير فاعلة، ينتظرون في قراهم شبه المدمرة العون من الخارج، وقد لا يصل مطلقاً. كذلك، يترقبون بأمل نهاية موجة العنف، نهاية لا يظنون أنهم قد يبصرونها.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى