صفحات الرأي

إدوارد سعيد في إيران: توظيف وتطويع… وتقويل/ يحيى بن الوليد

 

 

 

-1-

نال كتاب الأكاديمي الحداثي الأميركي والمفكر الفلسطيني الأبرز والأشهر إدوارد سعيد (Edward Said) (1935 ــ 2003) “الاستشراق” (Orientalism) (1978) اهتماما واسعا؛ وكان في أساس شهرته، بل كان في أساس وضع صاحبه في السياق الأكاديمي والفكري العالمي ككل، مثلما كان في أساس وضعه في جغرافيات متغايرة وثقافات متباعدة إلى حد التقارب في أحيان والتصادم في أحيان أخرى وغالبة. وليس غريبا أن يترجم الكتاب، حتى الآن، إلى ما يقرب من ثلاثين لغة.

وكان من المفهوم أن يسارع الناقد والشاعر السوري كمال أبو ديب، بعد عام واحد لا أكثر من ترجمة “الاستشراق” إلى الفرنسية، إلى نقل الكتاب إلى العربية (1981). وهو العام نفسه الذي ستظهر فيه الترجمة الألمانية للكتاب، ولتليه بعد عام واحد فقط الترجمة الفارسية، ولتتوالى بالتالي ترجماته إلى العديد من اللغات في الجهات الأربع من العالم، بما في ذلك بلدان البلقان. ولعل الأهم، في سياق هذا البحث، أن الكتاب تمّ تلقّفه في وقت مبكّر في إيران.

ولذلك كيف تمّ التعامل مع كتاب إدوارد سعيد “تغطية الإسلام” (1981) ذي الصلة المباشرة بالثورة الإيرانية (1979)، ومع النص السعيدي ككل، في إيران؟ المؤكد أن المدخل، هنا، هو الترجمة في “حضورها الذاتي”، وبالمعنى الذي يدرجها ضمن العلوم الإنسانية والاجتماعية؛ لكن دون تفريط في خصوصيات الإقليم الثقافي؟ والظاهر أن إدوارد سعيد، أو “المنظور السعيدي” تعيينا، يحظى باهتمام في إيران… وإلاّ لما كان بإمكاننا أن نقرأ عنوان بحث مستقل (باللغة الإنكليزية) موسوم بـ”إدوارد سعيد وترجمة كتبه للفارسية” (2002) لصاحبه أكبر أفسري (Akbar Afsari).

وكان هذا الأخير هو الذي قام بترجمة “الثقافة والإمبريالية” إلى الفارسية عام 2003 بعد أن قام عبدول رحيم كوَهي (Abdul Rahim Goahi) بترجمة “الاستشراق” إلى اللغة ذاتها عام 1998. وكلاهما نقل “تغطية الإسلام” إلى الفارسية: الأول عام 2000 والثاني قبله بعام واحد (1999). وزيادة على ما سلف قام أكبر أفسري بترجمة “العالم، النص، النقد” عام 1998 وبعد أن أضاف إليه حوارا مع إدوارد سعيد.

وفي سياق غير بعيد عن الترجمة، وهو سياق التعريف بإدوارد سعيد، فإنه لا بد من التذكير بحميد أزدنلو (Hamid Azedanlu) الذي نشر، وفي عام واحد فقط (2004) ثلاثة أبحاث (بالإنكليزية): أولها تعريفي بإدوارد سعيد تحت عنوان “إدوارد سعيد” (Edward Said)، أما الثاني فذو صلة بموضوع المثقف “سعيد واستقلالية المثقف” شأن الثالث ذي الصلة بالموضوع نفسه “خواص المثقف الحقيقي من المنظور السعيدي”.

وعلى الرغم من أن كتاب إدوارد سعيد (Representations of the Intellectual) (1994)، والذي حظي بثلاث ترجمات في العربية، عبارة عن ست محاضرات قدّمها صاحبها في الإذاعة البريطانية… فإنه يعدّ كتابا مرجعيا في موضوع المثقف العالمي والدور المنوط به في السياق الكوني، ولكن من دون نفي لخصوصيات الثقافات المحلية ودون سقوط في الثقافة الشعبية في الوقت ذاته؛ ذلك أن إدوارد سعيد صريح التأكيد على أنه “ابن المدينة” وليس الريف. ولذلك لا يبدو نشازا أن نعثر على أبحاث إيرانية أخرى تعنى به. والمثال على ذلك البحث المشترك (بالإنكليزية) (والمتداول في شبكة الاتصال الدولي)، حول الموضوع نفسه الذي هو موضوع “دور المثقف من المنظور السعيدي”، بين الباحثين الجامعيّيْن (Jamshid Bagherzadeh) و(Hoshang Razmdideh). وهي منسابة للتأكيد على طبيعة فهم موضوع المثقف، في مثل السياق الإيراني، التي لا تحيد عن التقديم والتعريف بالموضوع. ولذلك لم يخرج البحث عن دائرة العرض التعريفي للكتاب من خلال جرد المفاهيم المحورية والأفكار المركزية للكتاب. ومن ثم مفاهيم العالمية والدنيوية (Wordliness) والاستقلالية… موازاة مع أفكار مثل “قول الحق في وجه السلطة” والوعي باستعمال اللغة والنأي عن الإيديولوجيا والدين… إلخ. وهي أفكار متداولة في أكثر من مقال وتعريف بتصورات إدوارد سعيد ذات الصلة بمفهوم المثقف وأدواره في المجتمعات المعاصرة. ولذلك تبقى المقدمة، أو بالأحرى الخلاصة المركّزة التي تمّ بها تصدير البحث، مهمة وبخاصة من ناحية ما أشارت إليه تحت تسمية “مفاهيم حرجة” في دلالة على السياق الإيراني الفكري ومدى استعداده للتجاوب مع النص السعيدي نسقا وأفقا للتفكير في الوقت ذاته.

ولعل في التشديد على معطى الإقليم الثقافي، بخصوصيته القومية (الفكرة أو الهوية الإيرانية) وبخصوصيته الدينية الثابتة والمشخـَّصة والكاسحة (التشيّع)، ما يفضي بنا إلى تناول الموضوع من خارج اللغة الإنكليزية. ومن هذه الناحية فإن ما حصل لـ”تغطية الإسلام”، تجاوز الترجمة في حد ذاتها ولو في المنظور الذي يجعل منها مجرد أداة لمطمح النقل الحرفي أو ما يعاكس المنظور ذاته من خلال جعل الترجمة مطيّة للتأويل والتأويل المفرط في حدود ما تنصّ عليه نظرية الترجمة العامة.

ما حصل لإدوارد سعيد شيء آخر ولا صلة له بالترجمة في حضورها الذاتي ولو المهجَّن، وعلى نحو ما تنصّ عليه “النظرية الثقافية” للترجمة من خلال مفهوم “التطويع” (Manipulation)، ولا صلة له حتّى بطرائف الترجمة وتوابلها. وما نقصد إليه، هنا، هو ما لخـَّصه لنا الكاتب حسن خضر، في مقال لافت “لماذا لم نوفِ إدوارد سعيد حقّه..!!”، قائلا (ونستحضر نصه على طوله لأهميته): “للتدليل على هذا الأمر أسوق مثلاً واحداً، وأعتبر نفسي محظوظاً لأنني لم أعثر عليه في الكتب، بل سمعته من إدوارد نفسه في رام الله قبل سنوات. قال لي لقد ترجموا كتابي “تغطية الإسلام” إلى اللغة الفارسية في إيران، وتطوّع المُترجم فأضاف من عنده فصلاً جديداً إلى الكتاب، على اعتبار أن الفصل الجديد الذي يشيد بالثورة الإيرانية جزء من الكتاب الأصلي. ولعله فعل ذلك لاعتقاده بأن الكتاب يهاجم الغرب ويدافع عن الإسلام. وفي هذا السياق تجاهل المُترجم بأنني لست مسلماً، أنا علماني، وما جاء في الكتاب لا يُختزل تحت عناوين الدفاع والنقد، فموقفي مركّب وأكثر تعقيداً من ذلك بكثير. انتهى كلام إدوارد سعيد” (جريدة “الأيامّ” الفلسطينية): الجمعة: 27 نيسان (أبريل) 2010 (النسخة الإلكترونية).

وعدم “إيفاء” سعيد حقه، هنا، من “مطحنة الترجمة” التي أغدقت علينا بمخلوق عجيب وغير معروف. والأمر، هنا، تجاوز معطى استعمال إدوارد سعيد نحو لوثة استغلاله ونحو الإلقاء به في فرن الطِلاء الأيديولوجي وبركان التشحين الأيديولوجي. والظاهر أن ذلك كله مرده إلى “العلاقة الدرامية” مع الغرب الذي لم يتخلّص بدوره، على الصعيد الفكري ذاته، من “اللاشعور الكولونيالي” ومن ثوابت علاقات القوة والقوة العارية… في التعامل مع “بقية العالم”.

واللافت، أو بالأحرى المفارق، هو إقحام إدوارد سعيد ضمن هذا التصوّر العقائدي الأصولي الجارف… مع أنه نذر حياته، وبنزعته الإنسانية، لمجابهة جميع أشكال الأصوليات في تجلياتها الدينية أو الطائفية أو الثقافية… إلخ. والمؤكد أن الثورة، في إيران، وبحدّتها الدينية الراديكالية، لم تكن مجرد تغيـُّر في الأفكار فقط، وإنما كانت انقطاعا في مجرى التاريخ ذاته؛ وذلك كله في المدار الذي أفضى إلى ترسيخ “دولة مركزية” بل “شمولية” (كما يطلق بعضهم عليها) كان لتوسّعها “عواقب عميقة الأثر ليس فقط على السياسة والاقتصاد، لكن أيضا على البيئة والثقافة” كما يقول مؤرخ الشرق الأوسط والمختص في تاريخ إيران أروند إبراهيميان (Ervand Abrahamian) في كتابه “تاريخ إيران الحديثة” (ص13). ومن ثمّ لم تعد الدولة (ذاتها) هوية منفصلة في ذاتها ترفرف على المجتمع… بل أضحت هوية ضخمة متورّطة في المجتمع. وكانت الحصيلة: هوية وطنية ليست موضع مساءلة سوى في مناطق سنية هامشية (ص261).

وكان من المفهوم أن يكون لمثل هذا “الخطاب الكبير” دور حاسم على صعيد تثبيت التحوّل الكبير في مفهوم الثقافة في إيران. وتجدر الملاحظة إلى أن هذا التحوّل ليس مصدره الثقافة في حد ذاتها، وإنما مصدره تسييج هذه الثقافة داخل خطاب ديني متشدّد أفضى إلى إحداث “قطيعة تاريخية” على مستوى بنيات الدولة ومؤسساتها في علائقها بالمجتمع. وكما يقول وليام د. هارت (William D. Hart) في كتابه “إدوارد سعيد… والمؤثّرات الدينية للثقافة”: “عندما تنكر الثقافة الدين كشيء جدير بالاحترام والإجلال في الميدان العام، يتراجع الدين المنظّم ويتم  حصره في النطاق الخاص. وإذا كانت الثقافة تحوّلا في الفكر الديني، فإن الدولة ــ تحت غطاء السلطة المقدسة ــ هي وظيفة الدين البوليسية التي تُقوِّيها الثقافة وتحوّلها” (ص46).

إن ما حصل لـ”تغطية الإسلام”، من “زيادة”، كان استجابة لخطاب محدّد محكوم بنسق ديني/ ثقافي تأويلي. خطاب أدّى إلى إغلاق الجامعات، من التي “دينها العلم” (بالتعبير الدارج في كتابات التنوير)، وأدّى إلى اجتثاث التداخل الثقافي العربي الفارسي من خلال توقيف ترجمة الأدب العربي التي كانت قد ابتدأت في ستينيات القرن الماضي وفي إطار من الدفاع عن “راية الواقعية” في تلك المرحلة التي كانت تشهد على نوع من “الوعي التاريخي والأيديولوجي” الساخن في العالم العربي. وكان هذا التعامل مع الأدب العربي، وفي إيران “جارة العرب”، جزءًا من التعامل مع الفكر العربي ككل في تشابكه مع إشكالات وتيارات المرحلة التي سبقت الثورة الإيرانية التي أسهم في نجاحها “ماركسيون إيرانيّون” أيضا قبل أن يلوي بها “لاهوت السخط” (كما ينعته حميد دباشي في كتاب له يحمل العنوان ذاته) من خلال أيديولوجيا إسلامية راديكالية وعبر دستور يرسّخ الأيديولوجيا ذاتها. ولذلك جعلت الثورة التعامل مع المنجز الغربي، في مجال النظرية والمنهج، عملا مستحيلا.

فالترجمة محكومة بـ”أطر مرجعية” (إذا جاز أن نوظّف لغة المفكر محمد عابد الجابري)، ممّا يجعلها مقيّدة بـ”الثقافة السائدة” في بلد الاستقبال، وبخاصة في بلد مثل إيران الذي تعلو فيه الدولة على المجتمع. ولذلك فالتجاوب مع “النص السعيدي”، في إيران، ولو من داخل اللغة الإنكليزية، يظل في حدود ما يمكن أن تتيحه الدولة الدينية من انفتاح محدود ومضبوط مع الغرب. ومن المفيد أن نحيل، هنا، على واقعة طريفة عبـَّر عنها الكاتب البريطاني كامران رستكَار (Kamran Rastegar)، المحاضر في الأدب العربي والفارسي بجامعة إدنبرة (University of Edinburgh) في الجزر البريطانية، والمهتم بالأدب العربي الحديث في الشرق الأوسط ككل، ومن خلال مقال له تحت عنوان مطوّل اختزله المترجم العربي شاهر حسن كالتالي “بعد ثلاثين سنة ملف الاستشراق يُفتح مجددا”، وذلك حين راسله أحد الأكاديميين الذين يعملون في جامعة مدينة صغيرة “مرفدشت” (Marvdasht) [وهناك من يكتبها مرودشت] في محافظة فارس بوسط إيران. وهذا الأكاديمي يشرف على حلقة من الطلبة الباحثين في مجال الجغرافيا، وقد اتصل بالكاتب البريطاني بعد أن علم باشتغاله على كتاب “الاستشراق”. والعملية برمّتها تدخل في نطاق التواصل مع الغربيين، من المهتمين بالمنجز السعيدي، في أفق محاورتهم والإفادة منهم والاختلاف معهم… وفي أفق استخلاص أفكار تسعف على فهم العالم (المعاصر) وبالقدر ذاته محاولة تأكيد نوع من الانتساب لهذا العالم (الجامح). ويخلص كامران رستكَار إلى أن حدث الاهتمام بأعمال المفكر إدوارد سعيد بقدر ما أسعده بقدر ما فاجأه. وكما أنه في الوقت عينه شعر بالأسف لأنه لم تكن لديه القدرة على ترجمة وتفسير عنوان كتاب ثقافي أصدره، في المدينة ذاتها، طلبة إيرانيون يتناولون فيه قضية الاستشراق.

والموضوع، من وجهة نظرنا، ليس موضوع “موقف نصوصي” فقط ومن أجل إحداث “شقوق” في الأنساق السائدة؛ وإنما هو موضوع تطلّع إلى “نصوص” معينة بغية “امتلاكها” وبغية كتابة “خطاب نقيض” من خلالها. فمن الجلي أن الاهتمام بإدوارد سعيد، وإن في إطار شعب اللغة الإنجليزية، لا ينحصر في جامعة طهران فقط بل إنه يمتدّ داخل جامعات مدن إيرانية صغيرة.

وكما أن الاهتمام بإدوارد سعيد لا ينحصر في الجامعة فقط، وإنما يرتبط بأسماء تتحرك من خارج أسوار الجامعة أيضا. وفي هذا الصدد يمكن أن نحيل على سيد محمد مراندي (Sayed Mohammad Marandi) الذي هو علاوة على كونه أستاذا لمادة الأدب الإنكليزي بجامعة طهران وجامعات خارج إيران، وعلاوة على كونه معلـِّقا منتظما في قناة “الجزيرة” في نسختها الإنكليزية كما في برامج إخبارية أخرى في قنوات عالمية، فإنه مهتم بتمثيلات الغرب وتنميطات الاستشراق لإيران.

وهناك أيضا، وفي المدار الذي لا ينحصر في الجامعة الإيرانية، وفي المدار أيضا الذي يوسـِّع من دوائر الاستشراق في البحث الأكاديمي، محمد تفكولي ترغي (Mohamed Tavakoli-Targhi) صاحب بحث “إعادة تشكيل إيران: الاستشراق، الاستغراب والإسطوغرافيا”. والبحث ذو صلة بالجغرافيا التخييلية، وفي المدار الذي يجعل من المستحيل الاستقرار على أن الجغرافيا هي علم من العلوم الطبيعية فقط، وإنما هي علم من العلوم الاجتماعية. وذلك كلّه في المنظور الذي يعكس “التشكلات الخطابية” الكاشفة عن تنميطيات الغرب للشرق ضمن استراتيجيا مواكبة الثقافة للإمبريالية.

-2-

الظاهر أن التفكير في الحضور السعيدي في إيران، تعيينا، غير واردٍ لدى دارسي إدوارد سعيد من العرب بخاصة (وعلى قلّتهم)… مقارنة مع حضوره في بلد قريب، إقليميا، من إيران أو يحدّ هذه الأخيرة من شمالها الغربي وهو تركيا. ومردّ ذلك لأسباب متعدّدة لعلّ أهمها الطرح الاستشراقي الغربي ذاته الذي ما يزال، في شقّ كبير منه، يلخّص الشرق ككل في تركيا. وهذا بعد أن كانت الهند في وقت من الأوقات مرادفا لكل الشرق، وكان التمييز يتمّ بتحديد الهند “الكبرى” أو “الوسطى” أو “الصغرى”، وفيما بعد أصبح الأتراك يمثلون جميع المسلمين. وهو ما يذكّرنا به إندرياس بفلتش (Andreas Pflitsch) في كتابه “أسطورة الشرق” (ص15).

وفي سياق تعليقاته وردوده وحواراته وتذييلاته ونقاشاته… بخصوص تداول “الاستشراق” (Orientalism) (1978) وانتشاره، وهو الكتاب الذي كان في أساس شهرته المعرفية والفكرية العالمية، لا يخصّ إدوارد سعيد إيران بإشارة تلفت الانتباه مقارنة مع تثمين التداول ذاته في بلدان مثل الهند واليابان… وحتى باكستان. إلا أن “اقترانه” بإيران وارد، بل مؤكـَّد بأكثر من معنى. وهو ما يمكن فحصه من خلال كتابه “الاستشراق” (ذاته) قبل كتاب “تغطية الإسلام” (1981) المرتبط بالثورة الإيرانية في سياقها العالمي الإعلامي بصفة خاصة.

وأما السؤال الذي يفرض ذاته في هذا المستهل فهو التالي: كيف يمكن الربط بين كتاب “الاستشراق” والثورة الإيرانية التي اكتملت صورتها بعد عام واحد من نشر كتاب إدوارد سعيد؟ يجيبنا الباحث الأكاديمي جلبير الأشقر، هنا، ومن خلال دراسة مركـّزة كتبها في الذكرى الرابعة لوفاة إدوارد سعيد تحت عنوان “الاستشراق معكوسا: تيارات ما بعد العام 1979 في الدراسات الإسلامية الفرنسية”، قائلا: “يشكّل العامان 1978 ــ 1979 منعطفا في الدراسات الشرقية والإسلامية لكونهما قد شهدا ثلاثة أحداث بارزة. وأقصد بذلك أحداثا حصلت على مستويين مختلفين تماما، ومن ثمّ لا تمكن مقارنتهما، وإن كانت جميعها قد أثّرت تأثيرا قويا في الحقل الأكاديمي. الحدثان الأوّلان حصلا على مستوى التاريخ العام. الأوّل هو إسقاط نظام الشاه في شباط (فبراير) 1979، وتأسيس “الجمهورية الإسلامية” في إيران بعيد ذلك. والثاني هو نشوء انتفاضة إسلامية مسلّحة، في العام نفسه، ضد الديكتاتورية “اليسارية” في أفغانستان، الأمر الذي أدى إلى اجتياح سوفياتي للبلاد في كانون الأول (ديسمبر) 1979. أما الحدث الثالث، الذي يقع على مستوى التاريخ الثقافي، فهو صدور كتاب إدوارد سعيد، الاستشراق، عام 1978″.

لقد جرت العادة، في حال العرب والمسلمين، أن يتمّ التأريخ للشعوب والحضارات والثقافات من خلال الأحداث والحروب والهزّات والكوارث… ومن خلال “الشخصيات السياسية القاعدية”… أمّا أن يتمّ التأريخ من خلال كتاب محدّد، أو حتى التشديد على كتاب محدّد في التأريخ، فهذا غير مسبوق في التاريخ السياسي وهذا ما يُحسب للكتاب وصاحبه. ولا غرابة أن يعدّ الكتاب نفسه من بين أهم مائة كتاب (من غير الكتب القصصية) في العالم بعد أن حظي بالترتيب الثامن ضمن لائحة المائة كتاب (8/100) حسب تصنيف “الغارديان” (The guardian) البريطانية (2016) وبعد أن تمّ عدّه “أطروحة ما بعد كولونيالية راديكالية” تحدّت أصول ومحاور الدراسات عن الشرق كله، إضافة إلى أنه لا يمكن لأي مقاتل أو مقاوم أن يقف لامباليّا أمامها.

وفي حدود ما أتيح لنا من قراءة مقالات وأبحاث، وبخاصة في شبكة الاتصال الدولي، بخصوص موضوع بهذا الحجم من التشابك والتعقيد… ومن التحوّط والتخوّف في الوقت نفسه، يتبيّن أنَّ “المشترك” سواء داخل الجامعة الإيرانية أو خارجها هو التركيز على “نقد الاشتشراق”. وفي الحق لقد مارس إدوارد سعيد تأثيره على باحثين إيرانيين كانوا يدرسون خارج إيران وبما في ذلك من الذين هجروا إلى الولايات المتحدة الأميركية من أجل التحصيل المعرفي في كبريات جامعاتها وفي مقدّمهم الأكاديمي حميد دباشي. يقول هذا الأخير في كتابه “هل يستطيع غير الأوروبي التفكير؟”: “اكتشفنا إدوارد سعيد ــ أولا ــ من “الاستشراق” ثم من خلال كتاباته عن فلسطين، ومن هناك، إلى تأمّلاته المحرّرة، عن الثورة الإيرانية”. ويضيف: “لم يكن لدي أي فكرة حول عمل إدوارد سعيد، في النقد الأدبي قبل “الاستشراق”، وبقيت غافلا عنه ــ تماما ــ لعدة سنوات بعد تخرّجي” (ص30).

وعلى ذكر حميد دباشي فقد كان لإدوارد سعيد التأثير الأرجح، وحتى الأوحد، على مستوى نقد جيله من المثقفين المهاجرين من التحوّل وبشهادة دباشي نفسه إلى “مجرد حفنة، من الأرواح المتشائمة التي تعيش عرضة للحزن المزمن، أو قد تتحوّل ــ بكل أسف، وبشكل مثير للشفقة ــ إلى هذا النوع، أو ذاك، من الجواسيس والمخبرين المحليين؛ ممّن يبيعون أرواحهم، إلى سلاطين، بلا روح، في واشطن العاصمة، أو للآباء الخرفين، في بريستون” (ص66).

وحميد دباشي اليوم واحد من الأسماء المكرّسة في نقد “نظرية الخطاب ما بعد الكولونيالي” وأطروحات “ما بعد الاستشراق”… والقضايا العادلة. وكان صديقا مقرّبا من إدوارد سعيد إلى أن وافت هذا الأخير المنية (2003). ونقيض حميد دباشي، في السياق الأميركي ذاته ومن الإيرانيين أنفسهم، موجود. والمثال على ذلك سيد ولي رضا نصر مدرّس القضايا الإسلامية للعاملين في الجيش الأميركي وصاحب كتاب “صحوة الشيعة: كيف ستتحدّد النزاعات داخل الإسلام ملامح المستقبل” (2006) وكتب عديدة. وهو ما يذكّرنا، من خارج “المثال الإيراني”، بفؤاد عجمي وكنعان مكية في نقدهما للعرب من داخل أميركا وفي إطار من “ثقافة الاستسلام” حتى نحيل على عنوان الكاتب بلال الحسن الذي يخوض في الموضوع نفسه.

ولعلّ أهم ما يستخلص، على مستوى التعاطي مع المنجز السعيدي، في إيران، هو ضرورة الانخراط في تحديد مفهوم الاستشراق (الكبير)، وذلك كلّه في المنظور الذي يشدّد على “القتال الفكري” على مستوى مجابهة “الموقف الغربي من الشرق” بدلا من تتبّع وتفكيك… خطاب الاستشراق على مستوى دراسة لغات وآداب وثقافات… الشرق. وقد يكون التركيز على هذا الموقف هو الأهم؛ وهو ما تنفق عليه إيران بدورها من خلال تدريس الطلاب في الخارج ومن خلال تجنيد أقلام جامعية للترويج للتشيّع الإيراني وللإبقاء على تسمية “مستشرقين” لمواجهة منتقدي إيران بها، سواء من الأميركيين والإسرائيليين أو من الإيرانيين من غير الموالين أو من غير “الأساتذة” تبعا للتوصيف الداخلي. فليس من مصلحة إيران إقفال ملف الاستشراق في الشرق الأوسط بصفة خاصة… وليس لأن هذا الاستشراق يواصل معزوفة “الاختلاف الأبدي” بين الشرق والغرب فقط، وإنما أيضا لأن ازدياد الاهتمام العام بالشرق الأوسط المعاصر يُمكِن بسهولة أن يؤدي إلى تهميش البحث الفيلولوجي والثقافي “المستقّل” كما يقول شتِفان رايشموت في بحث له موسوم بـ”خطابات الاستشراق؟” وفي المدار ذاته الذي يستحضر الثورة الإيرانية ذاتها ومدى تأثيرها في مسارات التحوّل في بنيان الاستشراق (“تأملات في الشرق”، ص93). وهو ما تراهن إيران عليه في سياق “ما بعد الاستشراق” الذي يبقي على “أرض الأيديولوجيا” ذاتها في سياق الخطاب العدائي العام ذاته على مستوى التعامل مع الغرب ككل.

و”كتاب الاستشراق يشرّفه على الأقل أنّه جنّد نفسه صراحة في النضال، وهو الذي ما يزال مستمرا بطبيعة الحال في “الغرب” و”الشرق” معا” كما قال إدوارد سعيد في نهاية تذييل طبعة 1995 من كتاب “الاستشراق” (وهو متضمّن في ترجمة محمد عناني للكتاب). لكن من خارج الأصولية والقومية والاستغراب… وغيرها من المعاول أو الأشكال التي ينظر إدوارد سعيد إليها كمآسٍ حقيقية في العالم الثالث. وأهم ما لفت انتباه سعيد ضمن استقبال كتاب “الاستشراق”، في العالم العربي، “عداؤه للغرب”. وقد وصف “العداء” الذي يلازم هذا النوع من الاستقبال بأنه “مزعوم”. وقد عارض هذا الفهم، بشكل صريح، في سياق أوسع هو سياق معارضته الصريحة لما أسماه “مذهب الجوهرية” (ص513).

أجل إن الاستشراق (الجديد)، وحتى الآن، فشل في اختراق إيران، مع أنه ظل يتعامل معها كـ”بضاعة سياسية” عبر ركام من التنميطات المدروسة والأفكار المسبقة والافتراءات التاريخية… للتسويق لـ”مشروع الخوف المرضي من إيران” (IranoPhobia Project) في أميركا وفي مناطق من العالم ضمنها العالم العربي ذاته اعتمادا على علاقات القوة والعزل الجغرافي وتكثيف العداء… إلخ. وأجل كانت إيران وراء محورين كبيرين ضمن المحاور (البحثية والأكاديمية) التي دشّنها المنظور السعيدي في العالم ككل، وهما: محور “إدوارد سعيد والثورة الإيرانية” و”استشراق إدوارد سعيد وإيران”. إلا أنه، ومهما حصل من متغيّرات، ومن انفتاح نسبي، فما تزال الدولة الإيرانية ــ معرفيّا وثقافيّا ــ متصلّبة.

ولذلك، وفي مثال دال على محدودية التجاوب مع الأفق السعيدي، لم يكن غريبا أن ترفض إيران مجيء دانييل بارنبوم (Daniel Barenboïm) إلى إيران من أجل إحياء حفل موسيقي في إطار أوركسترا “ديوان الشرق والغرب” التي تضمّ عازفين عرب وإسرائيليين يقيمون حفلات في العالم بأسره. وكانت “الحجة” أن إيران ترفض “مجيء أي شخص في إطار مجموعة ثقافية رياضية أو سياحية يشتبه بروابطه مع النظام الصهيوني”. وكان دانييل بارنبوم قد ألّف مع صديقه الفلسطيني إدوارد سعيد كتابا مشتركا في الموسيقى تحت عنوان “نظائر ومفارقات ــ استكشافات في الموسيقى والمجتمع” (1990) ومن منطلق التركيز على مفهوم “التمثيل” (Representation) في الموسيقى بدورها، وفي دلالة على صلات الموسيقى بالأدب والثقافة والسياسة، وكما أنه كان قد أسّس معه الأوركسترا سالفة الذكر العام 1999 من أجل نشر “السلام في الشرق الأوسط”. الأوركسترا التي عزف إدوارد سعيد فيها من موقع “المايسترو” الماهر والبارع.

ويبدو الوصل ما بين إسرائيل ذاتها وإيران، على مستوى الحضور السعيدي، وارد؛ وهو ما يعقده الأكاديمي حميد دباشي في كتابه “هل يستطيع غير الأوروبي التفكير؟”. ويبقى الأستاذ الجامعي الإيراني والمعلّق التلفزي في قنوات عالمية سيد محمد مراندي (Marandi)، ومقارنة مع الأسماء الإيرانية الأخرى التي اعتمدت إدوارد سعيد، معروفا خارج إيران خاصة وأنه يسقط في الترويج لـ”الإيديولوجيا الإيرانية” وعلى النحو الذي يسيء لمصطلح الاستشراق ابتداءً. يوضّح حميد دباشي الفكرة قائلا: “يعدّ محمد ماراندي نظير سيث جيه. فرانتزمان في إيران. السمة المشتركة بين كل من هاتين القوتين الممثلتين بفرانتزمان (الصهيوني) وماراندي (الإسلامي) هي تلك النظرة الثاقبة لحجة سعيد في “الاستشراق”، وهي العلاقة بين المعرفة والسلطة” (ص36). ويتصوّر حميد دباشي، نفسه، أن ماكينات “الإساءة” للمصطلح أكبر من أن تواجه، و”كونه “باحثا إيرانيا” لا يشكّل سوى تشويش، على الموضوع الرئيس” (ص38).

وكتاب “الاستشراق”، ومن ناحية ما يتيحه من إمكانات “استعمال” متعدّدة لـ”مصطلح الاستشراق”، كباقي النصوص الكبيرة والمؤسِّسة: “مراقب” لكي لا يصير كتابا آخر لا يساير السياسة العليا لـ”الأيديولوجيا الحاكمة”. ومن ثم سوء الاستخدام الملازم للإعجاب بالكتاب في إيران كذات وهوية وجغرافيا… إلخ. الإعجاب الذي يجعل من إدوارد سعيد رديفا للدفاع عن الإسلام في “الغرب المتصهيّن” من جهة ويجعل من الإسلام رديفا للديمقراطية من جهة ثانية. وخطاب من هذا النوع هو الذي يبعث على الوصل بين إيران وإسرائيل على مستوى التعامل مع “سفينة الاستشراق”. يقول حميد دباشي: “يكره الممسكون بزمام السلطة في إسرائيل مصطلح “الاستشراق”، بالدرجة نفسها التي يحبّه بها القابضون على السلطة، في الجمهورية الإسلامية، ويسيئون استخدامه لمصلحتهم الخاصة. فالشيء المشترك بين الدعائيين الإسرائيليين ونظرائهم في الجمهورية الإسلامية ــ إذا ــ أنهم جميعا، في السلطة. ليس هناك مقدار ذرة من الفرق الأخلاقي بين الصهاينة على شاكلة فرانتزمان الذين يريدون إسكات الفلسطينيين، وبين موظفي الدعاية في الجمهورية الإسلامية مثل ماراندي الذين يرغبون في كتم أصوات خصومهم” (ص36).

المؤكد أن البحث في الحضور السعيدي في ثقافات أخرى، “شرقية” بدورها (اليابان مثلا أو بشكل خاص)، يتيح إمكان استخلاص استقبال وتداول النص السعيدي في جبهاته المختلفة من نقد مدني ونقد ثقافي ونقد موسيقي ونقد حداثي… بدلا من الانغلاق في جبهة “نقد الاستشراق” بمفردها. ولعل ــ الأهم أيضا ــ من منظور مغاير هو منظور توظيف النص وتتميمه… لكن ليس على طريقة “ترجمة تغطية الإسلام” التي أضاف إليها المترجم الفارسي فصلا يقوِّل فيه ما لم يقله إدوارد سعيد في “الكوبرا ــ أميركا”.

ضفة ثالثة

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى