إدوارد سعيد … في مفهوم الكتابة على حافة الموت/ موريس أبو ناضر
أصبـــح الكاتـــب والمفــكــر الفلسطيني إدوارد سعيد قبل فترة، مصدراً معرفياً للكثير من الباحثين العرب. فهو حاضر في الموسوعات التي تؤرّخ للنقد الأدبي ونظرية الفن وعلم الموسيقى. وهو حاضر أيضاً في نقد الخطاب الغربي الذي اخترع الآخر الشرقي والعربي المسلم، ليميّز نفسه ويبرّر حملته الاستعمارية على الشرق. هذا ما نلمسه في «الاستشراق» و»القضية الفلسطينية» و»تغطية الإسلام» و»الثقافة والإمبريالية». لكن حضور سعيد لا ينحصر في توجّهه السياسي والاجتماعي، وإنما يتعدّاهما الى المسائل الكونية، ومن بينها مسألة الموت والحياة.
في كتاب سعيد «عن الأسلوب المتأخّر – موسيقى وأدب عكس التيار» الذي نقله الى العربية فوّاز طرابلسي، (دار الآداب)، يتأمّل المفكر الفلسطيني في كتابات روائيين وشعراء وموسيقيين ومخرجين وفلاسفة، من أمثال يوريبيدس وتوماس مان وجان جيينه وبيتهوفن وشتراوس وفيسكونتي ولامبيدوزا وأدورنو، يتأمل في إنجازاتهم في الفترة الأخيرة أو المتأخرة من حياتهم، فترة تحلّل الجسد، واعتلال الصحة، أو حلول عوامل أخرى تحمل إمكان النهاية قبل الأوان، حتى لمن لم يتقادم بهم العمر. ولا بد هنا من الإشارة الى حالة سعيد الصحية، فهو اكتشف عام 1991 على أثر فحص طبّي، أنه مصاب بسرطان الدم، وأن أجله قريب.
يتأمّل سعيد إذاً، في إنتاج المبدعين، ويشرح لنفسه كما يشرح للآخرين كيف يؤثر اقتراب شبح الموت من المبدع صانعاً شروخات وتعارضات لا حلول لها في نصه، ناقلاً رغبته وهو على حافة الموت ونهاية العالم، في قول كلمته الأخيرة قبل أن يلوّح بيديه مودّعاً مسكنه الأرضي.
ينطلق سعيد في تحليله كتابات المبدعين في الفترة الأخيرة، من عمرهم من محاجّة مفادها أنه ولكوننا كائنات واعية، فنحن منشغلون في التفكير بحياتنا، وساعون الى إعطاء معنى لها. ذلك أن صنع الذات هو إحدى قواعد التاريخ الذي هو نتاج العمل البشري على ما يقول ابن خلدون وفيكو. ويضيف أن هذه المحاجة قادته الى دراسة عملية صنع الذات من خلال ثلاث إشكاليات. الأولى تتعلّق بفكرة البداية، أي لحظة الولادة والأصل، والثانية ترتبط بالاستمرار بعد الولادة وصولاً الى الشباب، والثالثة وهي الموضوع الأساس لعمله في الفترة الأخيرة، أو المتأخرة من الحياة.
يتساءل سعيد عما إذا كان الفنانون يزدادون حكمة مع العمر، وهل ثمّة مؤهلات فريدة في الرؤية والشكل، يكتسبها هؤلاء في الفترة المتأخرة من سير حياتهم؟ ويجيب بأن هناك فكرة شائعة عن علاقة السنّ بالحكمة في بعض الأعمال، بحيث نجد نضجاً مميزاً وروح تصالح وهناءة، كما تبرز في بعض أعمال شكسبير وسوفوكليس ورامبرندت وماتيس وباخ وفاغنر، ولكن ماذا لو أدّى التقدّم بالسن، على ما يقول، الى إنتاج كلّه عناد وعسر وتناقض، كما في الأعمال الأخيرة لإبسن التي تعلن عن فنان غاضب، يستخدم الدراما لإثارة مزيد من القلق والاضطراب.
يعرب سعيد من دون إحراج، أن النمط الأخير هو الذي يجده أكثر إثارة للاهتمام. نمط يضعه هو والفيلسوف الألماني تيودور أدورنو في الاتجاه نفسه، فقد استخدم هذا الأخير «الأسلوب المتأخر» في مقال له عن موسيقى بيتهوفن، يقول فيه إن فن أمير الموسيقى استنفد نفسه، فهو انبثق من أقاليم التقليد المسكونة، الى أقاليم الحيّز الشخصي الكاملة والتامة والفريدة، هو الأنا معزولاً في وجعه المطلق، ومحروماً أيضاً من الإحساس بسبب صممه. والحقيقة كما يعلّق سعيد على تحليل أدورنو، أن الدراسات عن الفترة الأكثر تأخراً من نتاج بيتهوفن نادراً ما تحيل الى السيرة والقدر، فكأن نظرية الفن إذ تواجه جلال الموت الإنساني تتخلى عن كل حقوقها لصالح الواقع. ويوضح سعيد أن أدورنو شخصية متأخرة لأن الكثير مما فعله، فعله بوحشية ضدّ زمانه ذاته المتمثل بروح العصر، ففي كتابه «تأملات من حياة مبتورة « يعارض ما أسماه روح العصر، أو ما أسماه بالعالم المدار، ومن زاويته كمنفي كما يذكر سعيد (وهو الآخر عاش النفي بكل أبعاده)، رأى أدورنو الحياة كلّها مضغوطة في قوالب جاهزة في بيوت مصنّعة مسبقاً، وأن كل ما يمكن المرء أن يقول أو يفكّر أنتج ليستقرّ في كل شيء قابل للتحويل الى سلعة، مثله في ذلك مثل كل الأشياء الأخرى. إن أدورنو كما يقول سعيد، يمثّل المثقف الأوروبي الرافض مساومة الصناعة الثقافية الجديدة، والمصمّم على أن يبقى لازمنياً ومشاكساً، قي المعنى النيتشوي للمعاكسة.
ويتابع سعيد بحثه عن نتاج الفنانين المتقدمين في السنّ، وأساليبهم المتأخرة التي تتضمّن توتراً متنافراً ومضطرباً، فيجد في قصة «الفهد» للروائي الإيطالي لامبيدوزا التي نشرت عام 1958، وفيلم فيسكونتي المأخوذ عن الرواية الذي عرض عام 1963، نموذجاً آخر لمحاجّته الثالثة، أي الكتابة خلال الفترة الأخيرة من حياة الفنان.
لم يبدأ الأرستقراطي دي لمبيدوزا العمل على «الفهد» إلا في وقت متأخر من حياته، شعر فيه أنه آخر المتحدرين من سلالة نبيلة عريقة بلغت معه ذروة انطفائها الاقتصادي، وهو بين أفراد عائلته آخر من يملك ذكريات حيوية، أو قادر على استحضار عالم صقلّي فريد. وكان مهتماً على ما يذكر سعيد بمسار الانهيار، ومحبطاً بسببه، ومن علاماته خسارة أملاك الأسرة بيتاً بيتاً. بعد أربع سنوات من وفاة الكاتب، بدأ المخرج الإيطالي الشهير فيسكونتي تصوير الرواية وأنهاها في العام ذاته.
ينتمي لامبيدوزا وفيسكونتي الى الطبقة الأرستقراطية، ويمثّلان النظام القديم ذاته الذي تصوّر أعمالهما مسار زواله. ومع ذلك، فكلاهما يشتغل من خلال نوعين فنيين مختلفين، هما الرواية والفيلم. في الفيلم والرواية، نلقى كما يقول سعيد، إعادة بناء لعالم لا يستعاد، بعضه تخييل، وبعضه الآخر تاريخ تهيمن عليه شخصية بطولية ذات حجم أكبر من الحياة، وهذا يتماشى بسهولة مع الأشكال الاستهلاكية التي يعمل بها كلّ من فيسكونتي ولامبيدوزا. والمقارنة مع أدورنو، بل حتى مع شتراوس ساطعة، ما دام كلاهما عمل في أنواع فنية أكثر تخصصاً ومقاومة، كالبحث الفلسفي والموسيقى الكلاسيكية. ومع ذلك، ففي حالة الأربعة كما يقول سعيد، شعور بشيء من الإسراف، أي الرغبة في المضي الى النهاية. والأربعة على ما يضيف، أي أدورنو وشتراوس ولامبيدوزا وفيسكونتي، مثلهم مثل غلين غولد وجان جيينه وقد اجتازوا من العمر أطوله، يرفضون هناءته، ويتشبّثون بفكرة الأسلوب المتأخّر، ليس بما هو تناغم وانفراج، وإنما بما هوعناد وعسر، وتناقض بلا حلّ، كما يتجلّى أيضاً في أشعار الشاعر الإسكندري اليوناني قسطنطين كفافي، الذي يجمع في شعره الأسطوري والعادي بنبرة ساخرة مبطّنة، نبرة الخيبة المحزنة مع التقدّم في العمر، نبرة تنمّ عن رفض الاتصال بزمانها فيما هي تحوك عملاً فنياً معترضاً ومعانداً في الوقت نفسه.
سواء كتب سعيد عن الموسيقى أو الأدب أو الفلسفة أو المجتمع، فهو يكتب بناء على تجربة طويلة، وموضوعات الكتابة عنده مشبعة بثقافة الشرق والغرب، ثقافة تدّل نظراً الى عمقها واتساعها، على تميّزه عن الآخرين، وكتابه عن الأسلوب المتأخّر خير دليل، فهو يذكّر بالأفكار الكبرى والمعلمين الكبار.
الحياة