إذا أردنا أن نعرف ماذا يحدث في البرازيل../ بكر صدقي
كان “حسني البورظان” الذي لعب دوره الفنان الراحل نهاد قلعي في مسلسل “صح النوم” يريد أن يكتب مقالة سياسية، لم يتجاوز فيها جملتها الافتتاحية الشهيرة: “إذا أردنا أن نعرف ماذا يحدث في البرازيل، علينا أن نعرف ماذا يحدث في إيطاليا”، بسبب إزعاجات “غوار الطوشة” ومقالبه اللئيمة. لنا أن نصف البورظان، اليوم، بأنه “محلل استراتيجي” من أولئك الذين يحتلون الآن الشاشات أو صفحات الجرائد أو المنابر الألكترونية الكثيرة.
الشحنة الكوميدية في الجملة المذكورة تكمن في مفارقتها للواقع، بمعنى هروب المحلل من مشكلاته المحلية التي تهم الناس إلى مشكلات بعيدة عنهم بُعد إيطاليا أو البرازيل عن دمشق، في زمن (منتصف السبعينيات) كان السوري، فيه، لا يعرف شيئاً، بالفعل، عما يدور في العالم خارج سوريا، وما يعرفه معرفة سطحية وبعيدة لا يعنيه من قريب أو بعيد. كان شائعاً، عصر ذاك، أن نسخر من أحزاب سياسية محلية تصدر بيانات تدين فيها فاشية نظام بينوشيه في التشيلي، أو تطالب بإطلاق سراح معتقلين سياسيين في سجون إيران الشاهنشاهية، أو تعلن تضامنها مع كوبا في مواجهة الامبريالية الأميركية، ولا تنبس ببنت شفة عما يجري في سوريا من مظالم وقمع وفساد سلطوي وغيرها من شؤون تهم السوريين.
مع انطلاق الثورة السورية، انفتح السوريون على العالم، وأخذوا يتحدثون ويكتبون عما يجري في بلدهم، ويحللون الأحداث ويطلقون استنتاجات وتوقعات. لكن الحدث الذي بدأ محلياً، أخذ يجتذب قوى إقليمية ودولية لها أجنداتها وحساباتها، إلى أن وصلنا إلى وضع كاد العامل المحلي يختفي فيه، ليبرز بدلاً منه عامل خارجي متعدد بتعدد تلك القوى، أمسك بكل خيوط الصراع فلم يترك للفاعلين المحليين أي هامش لقرار مستقل وفعل مستقل. وبالتوازي مع هذا المسار، تحول التحليل السياسي، باطراد، إلى تحليل “استراتيجي” يتحدث فقط عن دول ورؤساء دول ووزراء خارجية، وعن موازين قوى متحركة، وتحالفات متغيرة، وتصفيات حساب جانبية، وصولاً إلى تقاسم مناطق النفوذ على الأراضي السورية بين الضواري الإقليميين والدوليين.
تحوّل المحلل السياسي السوري، إذن، إلى “محلل استراتيجي” بمعزل عن إرادته. ونال ما نال من سخريات الجمهور المتعطش للضوء في نهاية النفق، لا لمزيد من الكلام و”التحليلات” التي لا تقيه من البراميل المتفجرة وغاز السارين والمجازر الجماعية والتهجير القسري بالباصات الخضراء. في حين أن المحلل لا يملك شيئاً من “ما يطلبه الجمهور” ليعطيه. كل ما في وسعه هو تقديم قراءة للحدث تلقي ضوءاً على المشهد العام.
وقد لعب دوراً كبيراً في السخرية من “المحلل السياسي والاستراتيجي” نوعان منه، أحدهما على ضفة النظام، والثاني على ضفة المعارضة. ومثال النوع الأول هو كل من يقدم قراءة للثورة السورية تعتبرها مؤامرة امبريالية خبيثة تستهدف إسقاط “سوريا” أو “الدولة السورية” لمصلحة “الامبريالية الأميركية” أو إسرائيل. يستفيض هذا النوع من المحللين في الحديث عن خطوط النفط والغاز ومحور الممانعة أو المقاومة، والصراع الأميركي – الروسي، ومشروع الشرق الأوسط الكبير، واختراع المنظمات الإرهابية لتقويض الدول “الممانعة”…
أما النوع الثاني من المحللين فهو ذلك الذي يغلب رغباته على معطيات الواقع، فيقوم بتأويل أي إشارة أو تصريح أو اجتماع، بما يخدم ضخ التفاؤل في نفوس جمهور الثورة، وكان العميد المتقاعد صفوت الزيات هو المثال النمطي لهذا النوع، قبل أن تستهلكه التطورات فيختفي عن الأنظار مع شاشته “الاستراتيجية” الشهيرة.
غير أن تقسيم التحليل، إلى سياسي واستراتيجي، ليس تقسيماً وظيفياً أو تقنياً بريئاً تماماً وفي جميع الحالات، بل قد يعبر، في حالات معينة، عن انحياز أو رؤية محملة بمواقف مسبقة. والمثال النموذجي لذلك هو قراءة بعض التيارات اليسارية العالمية للحدث السوري. فهي تنطلق، منذ البداية، من وجود “مؤامرة” امبريالية على نظام “مقاوم”، مضمرةً احتقاراً عميقاً للسوريين ودوافعهم وتطلعاتهم التحررية. فإذا اعترف بعض هذه التحليلات بأن النظام “صحيح ديكتاتوري وفاسد” والسوريين الذين خرجوا للتظاهر ضده، في الأسابيع الأولى، “ربما كانوا محقين في مطالبهم” ولكن القوى الامبريالية التي تترصد أي تململ مماثل للانقضاض على النظام “الوطني” سرعان ما استغلت الاحتجاجات الشعبية واستخدمتها للإطاحة بالنظام خدمةً لمصالحها الخبيثة أو لمصلحة الكيان الصهيوني..
هذا “تحليل استراتيجي” يرى في العالم رقعة شطرنج، واللاعبين دولا ومحاور بينها صراعات، بينما الشعوب والقوى السياسية المحلية مجرد بيادق يحركها “اللاعبون الكبار” الذين ينقسمون إلى “أخيار وأشرار” وفقاً لانحيازات المحلل ومسبقاته الإيديولوجية.
تلفزيون سوريا