صفحات الثقافة

إذا النهاية اقتربت

 

عباس بيضون

المبادرات فجأة كثيرة. مبادرة الشرع والمبادرة الروسية والمبادرة الإيرانية وهناك كلام عن حل يمني للأزمة السورية. كل هذا تخمينات، لكن المبادرات تأتي اليوم من جهة النظام السوري وحلفائه، هناك كلام عن تقدم للمعارضة المسلحة. ليست دمشق بعدُ في مأمن منه. تقدّم، إذا صح، فهذا يعني أن الجمود على الجبهة السورية يتزعزع، على أن التحاجز بين المعسكرين المتصارعين ليس أبدياً. على أن تحركاً في الوضع يعني أولاً أن النظام بدأ تراجعاً لا نهاية له إلا السقوط. النظام السوري بقوته التي تكاد تقتصر على طائراته المغيرة لن يتوقف عن التراجع، إذا صح أنه يتراجع، ما أن يبدأ به حتى يواصله. السلاح الجبار الذي يستعمله لم يعد كافياً، أو أنه يتلقى ضربات حقيقية، أو أنه يفتقر إلى الجهاز البشري. أياً كان السبب فإن فشل الطيران يعني بالطبع فشل الرهان على النظام. يعني إذا صح أن النهاية اقتربت.

إذا كانت النهاية اقتربت. إذا صح أنها تقترب، فلا داعي للفرح. هذه ستكون ساعة نجد فيها مهلة للحزن، وقتاً للتوقف أمام الكارثة، لحظة إجلال عميقة لهذا الشعب الذي كان سخياً، وسخياً جداً في تضحياته. التضحيات هي التي غذت المعركة وهي التي خلقتها. هي التي كانت وراءها وأمامها، هي التي مكنت لحادث درعا أن يغدو رمزاً وطنياً. هي فجرت النار تحت أقدام ودبابات الطغيان، هي التي نقلت الجمرة من مكان إلى مكان. هي التي تحولت إلى قوة، هي التي أوحت للجميع أن يصمدوا وهي التي رعت الصمود تحت العسف وتحت الانتقام الدموي وتحت الرعب الذي لا نظير له وتحت الحصار والجوع.

ستكون لحظة تفيق فيها الأم الثكلى على خسارتها. تجد الأخت دمعة على شقيقها، يجد اليتيم ذكرى لأمه، يبكي الصديق أخيراً صديقه. ستكون لحظة يتنفس فيها الناس الذين تنشقوا البارود أشهراً وأياماً. ستكون أيضاً لحظة هذا العراء الكبير هذه الصحراء البلا حدود التي هي الحرية. الحرية رغم الدم الذي نحمله على رؤوسنا. الحرية رغم القفص المعد لنا، الحرية رغم الفك المكسور واللسان المقتلع والعين المفرغة. الحرية رغم الذين يخنقونها بالدم، رغم كل الجهاز الحديدي، رغم كل البصاصين والمتجسسين والمنصتين من تحت الأرض. الحرية التي هي أيضاً ذلك الغطاء الفارغ وتلك السماء المبسوطة وذلك الأفق المكسور.

ليست الحرية خبزاً ولا نقوداً ولا جنة. إنها فقط هذا الهواء العاري. إنها التردد والخيارات الصعبة، إنها الصخرة على الكتف والتكرار العبثي والقفر والعري والمسؤوليات الثقال. ليست الحرية سوى اليقظة المؤلمة تحت كعب الجلاد، سوى الصحو في التعذيب وسوى معاناة الخسارة ورؤية المصير بالعين المفتوحة حتى العمى والمصير الذي يفقأ العين ويفغر الجسد، الحرية التي ليست سوى التفكير على حد الخطر. سوى التفكير الوسواسي الذي يأكل الدماغ.

يعلم الشعب أن الحرية لا تمطر ولا تعين من جوع ولا توزع هدايا ولا تصلح للأعياد. يعلم الشعب أن الحرية قد تعني التيه وقد تعني العثرة وقد تعني الجمود. يعلم لكنه خرج بعد أن ألقوا عليه حجراً لقبر منذ نصف قرن. خرج من تحت الحجر ليأكل البارود وليأكل القذائف وليأكل كل براميل الـ”ت.ن.ت”.

خرج الشعب وهو يعلم أن الحرية كلمة والموت أكثر من كلمة، أن الحرية شوق والموت كفن. أن الحرية حلم والخبز حقيقة. أن الحرية خيار وليس لديه ما يختاره بعد أن أقفلوا عليه الطرق وسلبوه كل شيء. يعرف الشعب أن دون الحرية جبال وبراميل ديناميت وسكاكين وطائرات. مع ذلك، من أجل كلمة، من أجل حلم، من أجل شوق ضحى بكل شيء، ضحى الشخص بعائلته وببيته وبحياته وخبزه. خرج بصدر مكشوف والتقم القنبلة بأسنانه وتركها تنفجر فيه وتتركه أشلاء. كل هذا من أجل كلمة، كل هذا من أجل نسمة، كل هذا من أجل شوق ومن أجل حلم.

أيها الراقدون في بطن الأرض، أيها الأطفال الذين كسفوا البسمة على وجوههم، أيتها النساء اللواتي خنقوهن بالدم، أيتها العائلات التي لم يبق منها أحد. أيها المبقورون بالحقد، المصروعون بالدم وفي الدم. أيها الذين انتزعت حناجرهم لكي لا يغنوا. صاروا أشلاء، وانتثرت أشلاؤهم في كل مكان، أنتم الذين حاربتم عن أجيال أناخت تحت الذل والخوف، حاربتهم عن مستقبل أسود وملون، حاربتم عن واقع ؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟، حاربتم بحناجركم، بأجسادكم، بصدوركم. وأسرفتم، أسرفتم في التضحية، منحتم، بأي شيء، وأي فقر وأي اعتذار عيونكم وقلوبكم. قدمتم بأي أريحية وأي خجل ما لم يدعكم أحد إليه. لم تكن وليمة هذه الحرب ولم تكن هناك دعوة. لم تكن عيدا ولم تصل إلى أحد دعوة. دعوتم أنفسكم وكنتم أنفسكم حين خرجتم. كنتم أنتم وأفكاركم فحسب. أنتم وهذا الهواء الذي يسمى حرية. أنتم وهذه الصحراء التي تسمى نسمة. أنتم وحدكم لتكونوا الكلمة، وحدكم لتكونوا الأفق، وحدكم لتكونوا النسمة والقدر والمصير. وها الآخرون يركضون خلف كلمتكم. الآخرون يركضون أمام أفقكم. الآخرون حيث أنتم الآخرون.

السفير

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى