صفحات العالم

إرث «داعش» أرض محروقة ودمار هائل … ونقمة تحت الرماد/ كريستوف رويتر

 

 

هل «داعش» يأفل أو هو في مرحلة أفول؟ جواب السؤال هذا يقتضي الحذر. فأكثر من مرة بدا أن تنظيم «داعش» يأفل. فقبل سبع سنوات، أطاحت قوات عسكرية أميركية وقوى أمنية عراقية قيادة التنظيم الذي ولد من رحمه «داعش». وفي حزيران (يونيو) 2010، أعلن جنرالات أميركيون أن تنظيم «الدولة الإسلامية في العراق» أُطيح وقُضي عليه. ولكن الأميركيين سرّعوا فحسب وتيرة تغيرات جيلية في صفوف قيادات التنظيم، وعبدوا الطريق أمام تحوله الى الوحش الذي بدأ في ترويع العالم في 2014. فقادة «داعش» الجدد في 2014، كانوا جزءاً من سلسلة قيادة تنظيم «الدولة الاسلامية في العراق»، وكانوا أكثر خبرة وكفاءة من شطر كبير من قتلى قياداته. وحال دون بروزهم حينها تحدرهم كلهم من أجهزة استخبارات صدام حسين وأجهزته العسكرية. وكانوا خبراء في القيادة العسكرية، وإرساء بنى الاستخبارات والتخطيط الاستراتيجي، وكانوا يعرفون على أي وجه تُؤسس الدول. وكان عمل هؤلاء الضباط وراء تقدم الميليشيات الإرهابية في 2014. وايديولوجيا «داعش» تشبه ايديولوجيا «القاعدة»، ولكن التنظيمين مختلفان.

وعلى رغم خسارته السيطرة على كبرى مدن «خلافته»، وهذه كانت عَلماً على قوة التنظيم، يسيطر «داعش» الى اليوم على مساحات مترامية من الارض. وهو يحارب على 11 جبهة مختلفة ولا ينسحب قبل قتال شرس. وفي سورية، يُمسك بمقاليد وادي الفرات، وهو منطقة خصبة وكثافتها السكانية مرتفعة تقع بين مدينة دير الزور والحدود العراقية، ويقال إن عدداً كبيراً من قادة داعش لجأوا الى هذه الحدود. وعملية استعادة الوادي الضيق هذا يسيرة وأسهل من استعادة المدن، ولكنه يقع بعيداً من مناطق عمل الميليشيات الكردية التي تهاجم الرقة ويدعمها الأميركيون. ويستفيد «داعش» من تضاريس الوادي: السهوب والصحراء تحيطان به، فيكون الانسحاب السريع في متناول إرهابيي التنظيم. ولا يتصدر قتال «داعش» أولويات نظام بشار الأسد وحلفائه الايرانيين والروس، على رغم مزاعمهم كلها. فـ «الجهاديون» عادوا بفوائد كبيرة على الأسد، فبدا في عين العالم أنه أهون الشرور. وفي العراق يسيطر جيش الإرهابيين على أراض واسعة: منطقة الحويجة التي تمتد على أكثر من أربعين كيلومتراً مربعاً من الأراضي الخصبة جنوب غربي كركوك، وفيها عدد من البلدات، ونحو مئة قرية وعشرات آلاف السكان. والحويجة هي من أول معاقل «داعش» في العراق- والأرجح أن تكون الأخيرة في سلم خساراته. والمنطقة هي نموذج مصغر يظهر تآكل التنظيم الإرهابي ومرونته، في آن. وطوال أشهر، نقل مخبرو «دير شبيغل» إليها تقارير عن تراجع مستوى الانضباط في صفوف «داعش» وقياداته وخلافات كبيرة بين فصائله المتنافسة. فعلى سبيل المثل، يسعى كل من الحسبة، «شرطة الأخلاق» التي تنفذ دوريات في أراضي سيطرة «داعش»، وجهاز الاستخبارات السرية الخاصة به، «أمنيات»، الى الحؤول دون نزوح المدنيين من المنطقة. فمن العسير الذود عن المدينة في غياب درع بشرية. ويجني مقاتلو «داعش» على خطوط الجبهات المختلفة مبالغاً كبيرة مقابل السماح للمدنيين بالعبور أو يتولون تهريبهم عبر حقول الألغام. «كنا نحو 200 شخص، وكانت معرفة تربط بيننا، والداعشي الذي هرّبنا عانق الحراس على نقطة العبور». وفي وقت ينظم داعشيون عمليات تهريب الناس، يحتجز مغاوير التنظيم من يشتبه في محاولتهم الفرار. وقبضة «داعش» على الحويجة لم تفتر. وحين قتل المسؤول الأمني (الداعشي) في قرية العباسي في نهاية حزيران (يونيو) المنصرم، اعتقل مقاتلو «داعش» مئات الأشخاص وقتلوا سبعة اشخاص من التنظيم، وفي عدادهم مسؤولان (داعشيان) في البلدة. ويبدو أن طي سيطرة «داعش» على الحويجة مستبعد في القريب العاجل. ولكن يرجح أن تدمر مدن وبلدات وأن تجند نساء وأطفالاً لتنفيذ عمليات انتحارية على الجبهات العراقية- والأغلب على الظن أن تصفي القوات العراقية السجناء. و «داعش» يخلف وراءه أرضاً محروقة- فإذا كان مآله الى السقوط، يُسقِط كل شيء في طريقه. فمزاج نهاية العالم، وهذه النهاية لازمة في خطاب البروبغندا الداعشي، أثير على قلبه. ولكن تنظيم داعش كله ليس شاغله الأفول والزوال. فهو مؤلف من فصائل مختلفة: فإلى «المغالين في التدين» و «الشهداء»، الذين يستسيغون أن يسقطوا في القتال عوض الاستسلام، ثمة داعشيون انتهازيون عينهم على المال والسلطة فحسب. وهذه التباينات في صفوف داعش كانت غير مرئية حين كان يفوز في المعارك، ولكن، على وقع الضغوط، الحال تتغير. ففي الموصل في الخريف الماضي، لم يخفَ أن مقاتلين داعشيين كانوا يغادرون المدينة، في وقت كان آخرون يبلغونها وهم على يقين أنهم لن ينجوا بحياتهم. وكان يسع «داعش» تسليم الموصل، وإنقاذ المدينة وحيوات آلاف مقاتليها. ولكنه لم يفعل، وقبِل هزيمة عسكرية تساهم في تأجيج الكراهية بين السنّة والشيعة. فحين لم يسلم الموصل، صار السنّة في مرمى هجمات انتقامية ومدار شبهات ووسموا كلهم بالإرهابيين.

واليوم، الميليشيات الشيعية التي حررت الموصل، تدمر منهجياً بلدات سنية مثل ديالى وبابل وطوز خورماتو، وتخطف الشباب فيفقد أثرهم، وتهجر عائلاتهم وتسرق المصانع وتدمرها. وحتى من نزح هرباً من داعش ولم يقبل سلطتها، لا يفوز بحماية المجموعات المعادية. ويحظر على مئات آلاف النازحين من السفر الى بغداد أو جنوب العراق، ويتركون لمصيرهم في العراء على حدود المناطق العراقية في مخيمات بائسة.

ولا شك في أن الاستثمار في الكراهية والانتقام هو نهج استراتيجي ثابت في حسابات داعش. وبادر أبو مصعب الزرقاوي، مؤسس «القاعدة في العراق»، والتنظيم هو سلف «الدولة الإسلامية في العراق»، الى شن هجمات على الشيعة العراقيين في 2003، عوض مهاجمة الاعداء الأميركيين والأوروبيين في عقر دارهم. فحساباته وحسابات «داعش» بسيطة: الانتقام الشيعي سيرمي السنّة في أحضانه، وهذا ما حصل في 2014. فرحب كثر من السنّة في الموصل وتكريت بالمحتلين «الداعشيين»، واستقبلوهم استقبال المحررين. واليوم، لن يحول شيء دون مبالغات المنتصرين وتجاوزاتهم، إثر هزيمة التنظيم الإرهابي، في وقت تحولت الميليشيات الشيعية الى جيش ظل مخيف متعدد الجنسيات يقاتل في سورية والعراق، وينضوي في صفوفه باكستانيون وأفغان ومؤيدو «حزب الله». والحرس الثوري يمسك بمقاليد الجيش هذا. ويهيمن الشيعة على حكومة بغداد، ولكن عجلة الحكومة هذه لا تدور والفساد ينزل بها الشلل. فلا تستطيع توفير الخدمات للعراقيين الشيعة والسنة، على حد سواء. ففي واحد من أغنى الدول بالنفط على وجه المعمورة، ثلث السكان يعيش تحت خط الفقر، وليس في مقدور الدولة دفع رواتب العاملين في القطاع العام. ولم تعد خطط إعادة إعمار الموصل، ولم تبذل أموال لهذه العملية. وعليه، ستقيض الحياة للكراهية ويعس عطش الانتقام. ولن يطول الأمر قبل أن يبرز جيل جديد من «الجهاديين»، في وقت لا يشح الغضب. ولكن ليس من يحل محل جيل من العسكر وقادة الاستخبارات الذين شدوا شوكة «داعش». وفي ذروة قوته، سيطر «داعش» على 100 ألف كلم مربع من مناطق يقيم فيها ملايين السكان. وجهاز كبير أدار عجلة تلك الامبراطورية. ولكن إعلان «الخلافة»، أضعف «داعش». فطابع «الخلافة» المرئي جعلها في مرمى الأعداء. وإعدام التنظيم رهائن بريطانيين وأميركيين وشن هجمات إرهابية في أوروبا وتركيا لم يثبط عزيمة هذه الدول في تشكيل التحالف المعادي لداعش. فإعلان الحرب على العالم كله صب في مصلحة حملة العلاقات العامة الداعشية، ولكن «الخلافة» كانت خاوية الوفاض في وجه الحملات الجوية.

وواصل عدد من الداعشيين القتال. ولكن في مطلع 2017، «اختفى» كثر من صغار القادة الداعشيين ووحدات النخب الصغيرة، وتبدد أثرهم. وأعلن «داعش» وفاة كثر منهم، وزعم انهم قضوا في ضربات جوية. ولكن الاستخبارات الغربية تعرف من مصادر وثيقة في «داعش» أمكنة هؤلاء. «نعرف في ثلاث حالات على الأقل أن المستهدف في الهجوم لم يكن حيث يُقال انه قضى»، يقول ضابط استخبارات أوروبي. ويرجح انهم هربوا الى أمكنة آمنة. وفي نهاية آذار (مارس) المنصرم، بثت وكالة «أعماق» الذعر والرعب في أوصال سكان الرقة حين أعلنت أن القوات الأميركية قصفت سد الطبقة وأنه يشارف على التشظي والانفجار. ودعا «داعش» السكان الى النزوح والهرب. ففرغت المدينة في يوم واحد من أهلها، وبعد ساعات أوعز اليهم داعش بالعودة، فالسد لم يدمر. ولكن لماذا أذاع «داعش» هذه الشائعة الكاذبة. ويقول مقاتل «داعشي» هرب في مطلع نيسان (أبريل) الماضي، كانت عملية إخلاء الرقة الجماعية خطة محكمة لتشتيت الانتباه. فهي كانت جسر قادة «داعش» الى مغادرة المدينة من دون أن تستهدفهم طائرات الدرون، واستخدموا سكان المدينة دروعاً بشرية. وفي مطلع العام، هُرِّب أبو بكر البغدادي الى سورية، وتبجح «داعش» بعد تهريبه بنقل قائده الى بر الأمان. ولكن حين أعلنت وفاة البغدادي في مطلع تموز (يوليو)، وسبق أن أعلنت في مرات كثيرة سابقة، استند الخبر الى مصدر ضعيف: شائعة في اوساط داعش مدارها على وفاته. وقد يكون الخبر مصيباً، ولكنه قد يكون شائعة لتخفيف الضغط عن البغدادي. وطالما في صفوف «داعش» مقاتلون يرغبون في القتال الى آخر رمق وأطفال مختطفون مجندون في صفوفه، ستكر سبحة المدن والبلدات المدمرة في معاركه المميتة. ولكن «داعش» نقل قادته ونخب مقاتليه واحتياطيه الهائل من الذهب، الى اماكن أخرى. فهو يرغب في مواصلة القتال حيثما يتمتع بحرية الحركة: في الخفاء. وهناك سيعد العدة، ثم يبرز وهو يرفع اسماً جديداً ولواء جديداً. وتربة الشرق الأوسط غنية ويسع تنظيم جديد من المقاتلين السنّة أن ينبت فيها: الريبة بين الشيعة والسنة، والحروب، وضعف قبضة الدول. فمنذ 2010، تحلى قادة «داعش» بالصبر، وأعدوا العدة لاقتناص الفرص السانحة في هذه التربة من أجل إنشاء اقوى تنظيم إرهابي في العالم. واليوم، في غياب هؤلاء القادة، السؤال الأساسي هو: هل أفلح عدد يعتد به من قادة «داعش» الكفوئين ومخططيه في البقاء على قيد الحياة، وهل ثمة بدائل كافية ليبقى التنظيم متماسك الصفوف تحت الأرض؟ يقول عميل استخبارات أوروبي رصد قبل 2014 بروز «داعش»، أن «التنظيم أعد ثلاث خطط بديلة، وليس ثمة ما يدحض انه سيفاجئ العالم من جديد».

* مراسل، عن «شبيغل اونلاين» الألماني، 30/8/2017، إعداد منال نحاس

الحياة

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى